ملف «تشرين».. القرن الأمريكي الجديد انتهى قبل أن يبدأ.. مسار مزدوج من الانكفاء والإكفاء.. وحقبة جديدة عنوانها «عالم ما بعد أمريكا»
تشرين – مها سلطان:
حتى في أميركا يتحدثون عن «عالم ما بعد أميركا».. هذه ليست مفارقة في ظل أن ذلك الحديث تحول حديثاً عالمياً طاغياً، وفي ظل أن الجميع بات يتعامل مع مسألة نهاية القطبية الأمريكية كأمر حتمي يُوجب المضي قدماً في ترتيب «عالم ما بعد أميركا».. وهنا تتقدم الصين وروسيا تحديداً.
لا شك أن أميركا هي أكثر من ينظر إلى مرآة العالم لتشاهد ما آلت إليه زعامتها، وكيف تتفلت من بين أيديها، تباعاً، أهم مناطق النفوذ الاستراتيجية لمصلحة القطبية الجديدة، الصين وروسيا.. حتى أن مصطلح «ما بعد أميركا» خرج من أميركا نفسها كعنوان لكتاب الصحفي الأميركي الشهير فريد زكريا (من أصول هندية) في عام 2009 وذلك بعد عام واحد فقط من الأزمة المالية التي ضربت قلب الرأسمالية عام 2008 والمتمثلة في أزمة الرهون العقارية، الكتاب يعرض ويفصّل بصورة أوسع وأشمل وأكثر دقة ماسماه «نهوض البقية» بمواجهة القطبية الأميركية، والمقصود هنا نهوض أمم من دول أخرى مثل الصين والهند والبرازيل وجنوب إفريقيا وغيرها، وبروز كيانات اقتصادية وعسكرية لنكون أمام عالم سمته انتشار القوة متعددة الأطراف على نطاق أوسع مقابل اضمحلال القوة الأميركية وفق مسار سيتواصل ويتسارع وصولاً إلى الانهيار .. هذا في حال لم يكن لدى الولايات المتحدة خطة واضحة للصد والرد.
إذاً، حديث «عالم ما بعد أميركا» بصورته المُعلنة ليس جديداً، وكذلك حديث العالم متعدد الأقطاب ما بعد انهيار الرأسمالية العالمية بزعامتها الأميركية وتسلطها على العالم منذ أربعينيات القرن الماضي ما بعد الحرب العالمية الثانية.
أميركا هي أكثر من يقرأ مشهد المتغيرات الدولية من خلال «أدمغة استراتيجية»
تضع الخطط والاستراتيجيات بهدف واحد فقط هو البقاء على قمة الهرم العالمي
– ولأن عيون الولايات المتحدة في كل مكان في العالم تترصد وتراقب وتعمل على وأد كل مسار يهدد زعامتها..
– ولأنها أكثر من يقرأ مشهد المتغيرات الدولية من خلال المئات من مراكز الأبحاث والدراسات المنتشرة في كل الولايات والتي تعج بالمئات ممن يُطلق عليهم الأدمغة الاستراتيجية (في الاقتصاد والسياسة والعسكرة) التي تضع الخطط وترسم استراتيجيات طويلة الأجل بهدف واحد فقط هو إبقاء أميركا على قمة هرم الزعامة العالمية..
– ولأن الولايات المتحدة بدولتها العميقة يفترض أنها كانت تمسك بخيوط جميع الدول وتوجهها كما تريد، حتى بالنسبة للمنافسين والخصوم «خطط تفكيك الاتحاد السوفييتي إلى دول قزمية تم وضعها منذ عام 1959 وبتكلفة 4 مليارات دولار، وهو رقم ضخم جداً بحسابات ذلك الزمن»..
– ولأن الولايات المتحدة، فعلياً، مازالت قوة اقتصادية كبرى، وقوة عسكرية «نووية» ضاربة، وقوة تكنولوجية هائلة بامتلاكها أضخم إمبراطوريات الذكاء الاصطناعي، عدا عن أنها تتزعم حلفاً دولياً، عسكرياً/ أمنياً «الناتو» يضم نصف العالم الأكثر غنى وثروة إضافة إلى التحالفات الإقليمية في أكثر المناطق استراتيجية حول العالم والتي تطوق بها الخصوم والمنافسين..
لكل ذلك يبدو مستغرباً وغير مفهوم أن تبدو الولايات المتحدة رهينة لمسار انكفاء متسارع وعلى كل المستويات، حتى ليبدو أنها عاجزة تماماً عن وقفه رغم كل الجهود التي تبذلها في سبيل ذلك، هل السبب فقط هو «نهوض البقية» أم أن السبب هو مسار مزدوج من الانكفاء والإكفاء؟
تعترف أميركا بانحسار نفوذها وهيبتها ومكانتها لكن هذا لا يعني استسلامها لواقع الحال.. فمازالت تخوض جولات وجولات مع عالم «البقية الناهضة» بدءاً من منطقتنا وصولاً إلى الصين..
ومازالت تعود منها خائبة، ومن سياق التطورات الدولية المتسارعة باتجاه ترتيب «عالم ما بعد أميركا» لا يبدو أن مزيداً من الجولات سيحقق لها أي شيء ولن يطول الوقت حتى تتيقن من هذه الحقيقة، وعندما تتيقن فعلاً فإن العالم عندها سيقف أمام محطته التاريخية الأخطر بانتظار رد الفعل، فماذا لو قررت الولايات المتحدة أن تهدم المعبد فوق رؤوس الجميع؟
وإذا كان من السابق لأوانه طرح هذا السؤال، فلنتجاوزه مؤقتاً إلى مسألة الانكفاء والإكفاء، البداية والمسار والمحطة الحالية.. والهدف.
يبدو مستغرباً وغير مفهوم أن تكون أمريكا رهينة لمسار انكفاء متسارع وعلى كل المستويات
هل السبب يعود فقط لـ«القوى الناهضة» أم هو مسار مزدوج من الانكفاء والإكفاء؟
في الترتيب التاريخي، هو الانكفاء الأميركي الرابع.. وللتوضيح فإن مسألة الانكفاء هي عملية أميركية ذاتية بحته (بل هي تقليد في السياسة الخارجية الأميركية) وفق سياسات مرحلية قائمة في أساسها على مستوى التدخل الخارجي ومساره وهدفه، كما أن الانكفاء ينحصر فعلياً وتحديداً في العسكرة (وقليلاً في السياسة) ودائماً وفق هدفين: 1- الثروات الاقتصادية الاستراتيجية وتوزيعها الجغرافي. 2- الحروب الاقتصادية التدميرية للخصوم والمنافسين، ويندرج ضمن هذين الهدفين بشكل أساسي المحافظة على منصة «الدولار القوي» كأهم سلاح سيطرة وتسلط وتسيّد .. ولم تشكل محطات الانكفاء الأميركية في أي منها خطراً، وهو مسار مُتبع منذ العقود الأولى لتأسيس الولايات المتحدة الأميركية.
سنعرض سريعاً لهذه المحطات التي يمكن إجمالها في أربع كبرى، مع التركيز على محطتي التسعينات، والعشرية الثانية من هذا القرن.
– الانكفاء الأول يعود إلى عام 1823 إلى مبدأ مونرو الشهير (نسبة للرئيس جميس مونرو) والذي منع بمقتضاه التدخل في الصراعات الخارجية والاهتمام بالشؤون الداخلية، والتركيز في السياسات الخارجية على نصف الكرة الغربي فقط ، أي غربي المحيط الأطلسي الذي رأته الولايات المتحدة – وكانت وقتها دولة فتية – مجالها الحيوي الخالص.
– الانكفاء الثاني جاء بفعل التقهقر الأميركي في فيتنام وصولاً إلى الهزيمة الكاملة عام 1975، إذ أعاد الرئيس جون كيندي وقتها تفعيل مبدأ مونرو بعدم التدخل خارجياً، ولم تتغير هذه السياسة إلا مع الرئيس رونالد ريغان (1981- 1989) الذي جاءت رئاسته بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران وكان أشهر أحداثها ما يُعرف بحصار السفارة الأميركية في العاصمة طهران (إضافة إلى أحداث عدة شهدتها منطقتنا ومناطق أخرى حول العالم شكلت تمرداً على ديكتاتورية الولايات المتحدة وتسلطها). في أحد خطابات حملته الانتخابية عام 1980 يقول ريغان: «بعضنا كبير في السن إلى حد يستطيع معه أن يتذكر سنوات ما قبل الحرب العالمية الثانية، كان بوسع الأمريكي أن يكون في أي مكان من العالم، يعيش ثورة أو حرباً، كل ما كان يتوجب عليه فعله أن يرفع علماً أمريكياً صغيراً فيجتاز تلك الحروب من دون أن يستطيع أحد أن يرفع أصبعاً في وجهه لأنه كان معروفاً أن الولايات المتحدة ستهب لنجدة أي من مواطنيها حيثما كان، كيف تركنا الأمور تتغير؟».
– الانكفاء الثالث جاء في أعقاب انهيار الاتحاد السوفييتي 1991. ففي آذار 1992 تسربت إلى الصحف وثيقة أعدت في مكتب وكيل وزارة الدفاع لشؤون السياسات آنذاك بول وولفووفيتز، وكانت الأولى من نوعها التي تصدر بعد انتهاء الحرب الباردة وفيها: «إن الاهتمام الأساسي الذي ينبغي أن تنشغل به الولايات المتحدة دون سواه لا بد وأن يتمثل في منع نشوء أي منافس لها على ظهر الأرض.. وهذا الهدف يقتضي منا أن نحول بين أي دولة أو قوة معادية تهدف لأن يكون لها أي سيطرة على أي منطقة.. فيما نعمل على إقناع الآخرين بأن لا يطمحوا يوماً إلى أي دور أكبر.. ويستوي في ذلك الأصدقاء والأعداء».
لكن داخل الولايات المتحدة لم يكن الجميع مؤيداً لهذه الوثيقة، خصوصاً مع انتهاء الحرب الباردة وزوال الخصم السوفييتي، وعلى مستوى السياسات الخارجية كان هناك انقسام بين تيارين:
الأول يقول: «الآن.. وبعد استرداد الأنفاس، تستطيع أميركا أن تسترخي وتريح بالها، ومن ثم تنسحب بهدوء وأمان من دوامات المشكلات التي تؤرق عالمها وتقضّ مضاجع زمانها.. وأن تقبع داخل حدودها الطبيعية مستريحة وادعة بين محيطين هما الأطلسي من الشرق والباسفيكي من الغرب تنعم براحة البال بعيداً عن صداع المشاكل والتعقيدات.. وأن تستمتع بمكانة الدولة العظمى ولو من ناحية الشكل البروتوكولي إذا جازت التسمية، دون أن تدفع ثمناً، أي ثمن لهذه المتعة المجانية».
والتيار الثاني، تيار الهيمنة والسيطرة يقول: «الآن.. وقد قُيضَ لأميركا أن تكون القطب الأوحد في العالم بعد فوزها على الخصم (الشيوعي) فقد بات بوسعها، بل وأصبح من مقتضيات مكانتها – السوبر- أن تستخدم جبروتها العسكري كي تجبر العالم على أن ينصاع لرغباتها ولكي تُحول دون قيام أي قوة أخرى قد تنافسها».
مازالت أميركا تخوض جولات إنقاذ ما يمكن إنقاذه من منطقتنا
وصولاً إلى الصين ومازالت تعود منها خائبة ولايبدو أن مزيداً من الجولات سينفع
في هذه الفترة، أي التسعينات، وفي فترة رئاسة بيل كلينتون، كان التيار الأول أكثر نفوذاً بفعل قوته داخل الكونغرس، وكان من مسار الانكفاء (والعزلة) أن اكتسب دفعاً جديداً بسيطرة هؤلاء على «محفظة النقود» ليعملوا على تحجيم وإعاقة جهود كلينتون في كل ما يتعلق بالتدخل الخارجي سواء العسكري، أو ما يسمى تضليلاً جهود صنع السلام.
مع بداية هذه الألفية ورئاسة جورج بوش الابن، استمرت سياسة الانكفاء، مع وجود التيارين نفسيهما، واتساع التجاذبات بصورة طاغية، ليسود نوع من الفوضى والحيرة والارتباك في مقاربة قضايا السياسة الخارجية لناحية التعامل مع قوى أخرى صاعدة كالصين، إلى جانب قضايا منطقتنا.. ومنطقتنا هي أهم المناطق الحيوية للولايات المتحدة، ومركز التنافس المحتدم والمتصاعد مع «الأمم الناهضة» وفق فريد زكريا في كتابه آنف الذكر.
هذا الحال لم يحسمه سوى وقوع أحداث 11 أيلول 2001 فكان الانحياز الكامل والتكريس التام لتيار الهيمنة (تيار الصقور أو ما عُرف بالمحافظين الجدد) والداعي إلى أن تمارس أميركا كامل هيبتها وأن تستخدم جبروتها العسكري الأقصى لتركيع العالم، فكان غزو أفغانستان 2001 ثم غزو العراق 2003، وكان تقسيم العالم إلى «من ليس معنا فهو ضدنا».
هذه العسكرة الجديدة قادت إلى المبالغة في تكديس الأسلحة وتعزيز الجبروت العسكري، والذي تطلب إنفاقاً هائلاً.. كما رافقها تحييد للحلفاء وعدم الاكتراث بآرائهم ومصالحهم، وحتى العمل ضدهم. الإنفاق الهائل على العسكرة ما لبث أن انعكس داخلياً بأزمات متصاعدة خصوصاً على مستوى الدَّين الداخلي وغلاء المعيشة – الدين القومي والدين العائلي- وارتفاع معدلات البطالة… وهكذا وصولاً إلى أزمة الرهون العقارية عام 2008/2009. هذه الأزمة وإن لم تكن تهديداً من المستوى الذي يسقط قلب الرأسمالية العالمية إلا أنها عملت على الحد من الهيمنة الأميركية من جهة، وسرعت ما سًمي حينها «الهيجان الاقتصادي» للعبور إلى «عالم ما بعد أميركا». أميركا خسرت ما يُقارب 40 تريليون دولار من قيمة الأسهم في الاقتصاد العالمي، إلى جانب تأميم أكبر مؤسسات الرهن العقاري.
بالمقابل شهد هذان العامان نمواً استثنائياً غير مسبوق في حجم الاقتصاد العالمي ليرتفع من 31 تريليون دولار عام 1999 إلى 62 تريليون دولار عام 2008. لقد كان عصراً ذهبياً لـ «البقية الناهضة» حيث نمت 124 دولة في وقت واحد وبنسبة 4% سنوياً، وكانت الصين في المقدمة.
والمفارقة أن هذه الدول استخدمت نظام الاقتصاد المعولم نفسه، وهو مامنحها الثقة واليقين الاقتصادي باتجاهين: الأول أنه نجاح غير مرهون أو مشروط بأميركا، والثاني أنه نجاح يمكن البناء عليه وباستخدام السلاح الأميركي نفسه، العولمة.
طبعاً هذه الثقة ودوام النمو نتج عنهما تحول في القوة والنفوذ باتجاه نزعة استقلالية (وحتى عدائية) بمواجهة أميركا، حيث شهد العالم تدفقاً في الثروات والابتكارات إلى أماكن غير متوقعه، وقاد إلى صعود قوى جديدة (الصين، الهند، البرازيل، جنوب إفريقيا) وإلى عودة قوى قديمة (روسيا) وبأسرع مما تخيلته أميركا.
وهكذا وصولاً إلى الانكفاء الرابع.
عندما تتيقن أميركا من عجزها كلياً عن وقف «عالم مابعد أمريكا» سيكون العالم
أمام محطتة التاريخية الأخطر.. ماذا لو قررت أن تهدم المعبد فوق رؤوس الجميع؟
الانكفاء الرابع جاء إبان تمكن روسيا من استعادة شبه جزيرة القرم عام 2014 لتبقى أميركا ضمن دائرة التهديد اللفظي، وفرض عقوبات بلاقيمة لناحية إجبار روسيا على الخروج من القرم، الرئيس الأميركي باراك أوباما آنذاك اعتبر أن روسيا لا تعدو كونها مجرد قوة إقليمية وليس عالمية، بمعنى أنها لا تشكل تهديداً.
أخطأت إدارة أوباما كلياً في تقدير حجم وقدرات روسيا، وفي إدراك أنها ستتوسع سريعاً على الساحة العالمية، عسكرياً على وجه الخصوص، لتتحول لاعباً رئيساً إلى جانب بقية الأمم الناهضة، ولتشكل مع الصين محوراً بات يستقطب أكثر من نصف العالم بمواجهة الولايات المتحدة التي وجدت نفسها مجبرة هذه المرة على الانكفاء قسراً، وليس طوعاً كما في المرات الثلاث السابقة، وعلى جميع الجبهات العسكرية والسياسية والاقتصادية، وبما أفقدها التركيز ودقة التخطيط والتصويب الذي كان ركيزتها الأساسية ما بعد الحرب العالمية الثانية فيما يخص السياسات الخارجية، والعسكرية منها خصوصاً.
من هذا الانكفاء الرابع، يمكن تسجيل بداية عملية إنكفاء عالمية للزعامة الأميركية، علماً أن ملامحها بدأت فعلياً منذ عملية غزو العراق وما أظهرته فترة التحضير لها من انقسام عالمي، ومعارضة دولية بارزة، وضمن المعارضين حلفاء لأميركا.
الأخطر اليوم في مسألتي الانكفاء والإكفاء بالنسبة للولايات المتحدة أنها وجدت نفسها مجبرة على أمرين، الأول: ترك أكثر المناطق العالمية استراتيجية وحيوية لها، ومنطقتنا على رأسها، والثاني: تقاسم ما تبقى من المناطق. وهذا كله لمصلحة أقوى الخصوم الذين تصنفهم كخطر «قومي».
كيف وصل الأمر بأميركا إلى مرحلة الإكفاء؟
2- الانكفاء الأخير كانت له عواقب وخيمة على زعامة أميركا العالمية، وعلى حلفائها. الفراغ الذي خلفه الانكفاء سرعان ماوجد من يملؤه، تقدمت الصين وروسيا، ووجدتا من يلاقيهما من حلفاء أميركا وخصومها على السواء.. هؤلاء وجدوا طريقة لضمان مصالحهم من خلال استثمارات ضخمة مع الصين وروسيا على قاعدة آمنة ومتكافئة ومستقرة وبصورة أسهل بكثير مما كانت عليه الحال مع أميركا، خصوصاً لناحية المكاسب والمنافع المتوقعة، هذا من جهة.. ومن جهة ثانية فإن الدول التي تسعى لتحقيق المزيد من الاستقلال الاقتصادي تريد أيضاً أن تكون أكثر أمناً عسكرياً، وهذا ما يتوفر من خلال التحالف مع الصين وروسيا.
2- أفرطت الولايات المتحدة في إهمال حلفائها، ومصالحهم، وهي لم تدرك خطأها إلا بعد فوات الأوان، بعد أن رأت الصين تمد أذرعها الاقتصادية في أربع جهات العالم، ويتم استقبالها استقبال الفاتحين.
3- أكبر عملية إكفاء ربما تتمثل في مشروع الصين الأعظم «الحزام والطريق» وهو مجموعة من الطرق البرية والممرات البحرية في أهم مناطق التجارة العالمية، ويشكل الشرق الأوسط نقطة ارتكازه الأساسية، ومن شأن اكتمال هذا المشروع أن يضع حداً نهائياً لزعامة أميركا التجارية.
لم يعد بإمكان أميركا زرع الترهيب نفسه في ظل وجود خيارات أخرى
أمام الدول أكثر أمناً وثباتاً وتكافؤاً وهنا تبرز القطبية الصينية الروسية
4- الإخفاق في تقدير حجم الخصوم وقدراتهم.. على سبيل المثال مازالت الولايات المتحدة تعتمد نهجاً يتركز على احتواء الصين وروسيا إقليمياً، وهذا يعد على نطاق واسع خطأً جسيماً وغير مفهوم إذا ما أخذنا بالاعتبار أنهما كانت تعملان وعلناً على توسيع نشاطاتهما ونفوذهما عالمياً، وبأهداف معروفة تتركز على القضم تدريجياً من قوة الولايات المتحدة ونفوذها.
5- ليس بإمكان الولايات المتحدة رصد الأموال نفسها لمواجهة المد الصيني الهائل عالمياً، كما سبق وفعلت مع الاتحاد السوفييني. فعلياً تكاد الصين تتجاوزها اقتصادياً، هي مسألة سنوات قليلة فقط، وهذا الأمر ينطبق على القوة العسكرية.. لذلك نرى أميركا تستجدي التهدئة مع الصين وإن بسياسات لاتزال استعلائية، تدرك أنها بلا قيمة، والجميع يفهم أنها من باب حفظ ماء الوجه في سياق مزيد من الانكفاء الأميركي مع اتساع عملية الإكفاء التي تواجهها.
6- لم يعد بإمكان أميركا زرع الترهيب نفسه في ظل وجود خيارات أخرى، أمام الدول، أكثر أمناً وثباتاً وتكافؤاً، وهنا تبرز القطبية الصينية – الروسية التي تعمل على توسيع وتدعيم ركائز الاستقرار الجيوسياسي باتجاه خلق بيئة دولية سلمية يمكن من خلالها تحقيق أوسع مدى ممكن للأعمال التجارية.
7- «بدء عصر مساعدة الذات».. تعبير اعتمدته مجلة «مودرن بوليسي» الأوروبية في مقال نشرته في الـ11 من هذا الشهر، لوصف التحولات السياسية المتسارعة حول العالم خصوصاً ما بعد المد الصيني – الروسي، وبروز نقاط الضعف الأميركية أكثر فأكثر وبما يثبت ويؤكد النظريات التي تقول بـ«عالم ما بعد أميركا» لذلك بدأت هذه الدول بالسعي إلى تشكيل تحالفاتها الخارجية والذهاب بعيداً في تحدي أميركا وضغوطها (وحتى تهديدها) بل ومسابقة الزمن لتكون جزءاً قوياً، أو قطباً مركزياً في عالم ما بعد أميركا.
8- أميركا وحدها من يتحمل مسؤولية نشوء محور صيني – روسي من خلال سياساتها المعادية ضد روسيا وعلى رأسها عملية توسع الناتو في مناطق الاتحاد السوفييتي سابقاً ودول حلف وارسو السابقة، هذا المحور لا قِبَل لأميركا بمواجهته ولا سبيل لهزيمته، خصوصاً مع انضمام إيران إليه.
9- حرب أوكرانيا وفشل أميركا في إقناع معظم دول العالم بالوقوف ضد روسيا ودعم العقوبات عليها.
10- حالة الضعف والانقسام السياسي الذي تمر بها أميركا، وهي غير خافية على أحد، في وقت تبدو القوى الصاعدة متعاظمة التماسك السياسي والاستقرار الداخلي.
11- إكفاء الدولار، حيث أدت العقوبات المفروضة على روسيا على خلفية حرب أوكرانيا إلى تخلي العديد من الدول عن الدولار، وهذا ما أسهم في الحد من قدرة واشنطن على إبراز قوتها على الساحة الدولية.. وحسب تقرير نشرته صحيفة «نيويورك بوست» الأميركية الخميس الماضي فإن 100 دولة على الأقل لم تدعم العقوبات الأميركية/الغربية على روسيا، الأمر الذي أدى لظهور تحالفات اقتصادية تستخدم عملات أخرى في التجارة الدولية، مشيرة إلى الوهم الذي تعيشه أميركا حيال مسألة أنه لايمكن للعالم الاستغناء عن الدولار.. وتنصح «نيويورك بوست» القادة الأميركيين بضرورة تقليل عدد الخصوم الاستراتيجيين «وترتيب اقتصادها بشكل نهائي» وإلا ستخسر كامل ثقلها على الساحة الدولية مع خطر الوقوع في «فجوة ديون» لانجاة منها.
عملية إكفاء الدولار قطعت خطوة بارزة.. مئة دولة على الأقل ممن لم تدعم العقوبات على روسيا تعمل لاسقاط وهم أن العالم لا يمكن له الاستغناء عن الدولار
عشية قمة مجموعة السبع التي انعقدت في هيروشيما- اليابان (19- 21 أيار الماضي) نعت صحف أوروبية الغرب الرأسمالي الذي تتزعمه أميركا، معتبرة أنه فقد قدرة إملاء الشروط على العالم.
صحيفة الـ «إندبندنت» البريطانية اعتبرت القمة بمنزلة توديع رمزي للنظام العالمي/ الأميركي، ووصفت أعضاء المجموعة، الذين يُعتبرون الأغنى والأكثر تصنيعاً في العالم، بأنهم «أشبه ببقايا حقبة ما بعد الحرب أكثر من كونهم فرقة عمل تشكل المستقبل».
في اليومين الـ 11 و12 من هذا الشهر، استضافت السعودية أكبر تجمع تجاري صيني – عربي على الإطلاق تحت شعار «التعاون من أجل الازدهار» وعلى قاعدة الدمج في المصالح والأهداف والتطلعات المستقبلية، ويأتي انعقاد هذا التجمع رغم الضغوط الأميركية (التي تكاد تتحول توسلات) وبعد أيام فقط من زيارة وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن للسعودية ضمن محاولات الولايات المتحدة لـ«إصلاح العلاقات وحل الخلافات».
كل ذلك وغيره كثير مما يؤكد مسار الانحدار المتواصل والمتسارع للزعامة الأميركية العالمية.. مع ذلك فنحن لا نستطيع ولا بأي شكل الحديث عن انهيار أميركا وفق مبدأ صعود وأفول الإمبراطوريات المعروف تاريخياً.. أميركا حتى في مسألة الانهيار تحتفظ بخصوصيتها، ولن تشبه غيرها، حتى في أقرب الأمثلة تاريخياً إلينا، عندما انهار الاتحاد السوفييتي في أوائل تسعينيات القرن الماضي.. و«عالم ما بعد أميركا» لا يقول ولا يفترض بأن أميركا لن تكون موجودة أو غير مؤثرة على ساحة الفعل الدولي.. هذا ما يقوله «البقية» أنفسهم الذين ينهضون في مواجهتها ويريدون إسقاط سطوتها لمصلحة نظام دولي جديد أكثر تكافؤاً وتوازناً.
وفقاً لهذه الرؤية فإن القطبية الأميركية تنحسر ولا تنهار، وأميركا لن تزول بل ستبقى قوة لها مكانتها ودورها ولكن ليست قوة مُقرِرة بصورة منفردة، ولن يكون العالم طوع بنانها.. هذا زمان ولى.
والسؤال: هل ستقبل الولايات المتحدة بهذه الحال.. هل العالم مقبل على انتقال سلس إلى عصر التعددية القطبية أم على مرحلة من تصاعد التوترات والتجاذبات والاستقطابات دون استبعاد نشوب حرب عالمية ثالثة؟
اقرأ أيضاً:
ملف «تشرين».. في رحلةِ صعودها المتأني والمدروس .. الصين تأخذ العالم إلى شراكات أكثر أمناً وثباتاً