التنميةُ ومهاراتُ «الرقص على الجليد»
لم يعدْ المجالُ سانحاً للهروب من المواجهة اليومَ، لا في حروبٍ عتادُها السلاحُ، ولا في أخرى وقودُها النفطُ، أو ثالثة عدّتها الغذاءُ، ولا رابعة تتراشق ملفّات المياه، أو خامسة شاملة لكل ما سبق، عدّتها وعتادُها وعديدُها ووقودُها الإعلامُ.
لامجالَ للهروبِ، ولامجالَ للتعنّت في التموضعات القديمة، لا للدول، ولا للمجتمعات، ولا لنظريات الاقتصاد والسوق، فالمرونةُ هي الخيارُ الأكثر حكمةً في التعاطي مع الأرضيات الزلقة ووقائع عدم الاستقرار، ويا لَه من عالمٍ زلق، يتكشّف للجميع في السنوات القليلة الأخيرة، قد نكون انشغلنا قليلاً، نحنُ السوريين، عن متغيّراته العميقة، في معمعة منافحتنا لتجاوز برزخ الحرب القاسية التي أُديرت على بلدنا.
متغيّراتٌ ذاتُ وقعٍ قاسٍ في الحقيقة، لن يستوعبها كثيرون منّا، لأنّنا دخلنا نفقَ الحرب لنخرج منها، بعد اثني عشر عاماً، على مفاجآتٍ صادمةٍ لكلِّ مَنْ مازال متمسّكاً بثوابت ظنَّها دساتيرَ حياةٍ، على الرغم من أنّها استثناءاتٌ وتقوقعٌ في بقاياً نمطٍ اقتصاديّ هجره حتى أصحابُه، وإلى الأبد.
فالمرونةُ تُملي علينا خلعَ عباءةَ الماضي والاستعدادَ للأجيال الجديدة من الحروب واستحقاقاتها..جرّبنا الحروبَ العسكريّة، وأثبتنا أننا نُجيدها، وعلينا خوضُ حروب النفط والمياه والغذاء والإعلام، ولشدّ ما لهذه الأخيرة من شراسةٍ وضراوةٍ.
حروبُ فناءٍ أو بقاءٍ، ستأتي على كل مَنْ ليس في حوزته إمكاناتٌ وأدواتٌ، ونحنُ في سورية لسنا من هذا الصنف البائد سلفاً.. نملكُ كفايتنا من تنوّع الموارد، فنحن أغنياءٌ، وفي عُهدتنا الجغرافيا المُمسكة بناصية إقليم بل أقاليم، فنحنُ أقوياء.
ما ينقصُنا هو المرونةُ، وهذه ليست بحاجة إلى استيرادٍ..مرونةٌ وواقعيّة في إدارة الموارد على مستوى الحكومة والأفراد أيضاً، والعمل وفق أدبيّات «فنّ المُمكن» في زمنٍ، حسبُ الاقتصادات النجاةُ بشعوبها لا بإيديولوجيّاتها المتكلّسة.
نحنُ اليومَ في خضمِّ تطبيقاتٍ ثقيلةِ الوطأة للعولمة التي لم تعدْ مجردَ مصطلحٍ غير محسوسٍ، يتفرُّد بفلسفته باحثون اعتادوا امتطاء صهوات السباق مع المستقبل، أو إعلاميون يبحثون عن مادة جاذبةٍ لقبول آمري النشر.
فثمةَ وقائعٌ قاسيةٌ تتقبّلها المجتمعاتُ اليومَ، ولو على مضضٍ، بكل ما فيها من اختراقاتٍ للخصوصيّات التي لم تقفْ عند الوجبات العابرة للقارات، بل وصلت إلى المخادع الخلفيّة في بيوت أكثر مَنْ حاولوا التحفّظَ والاحتفاظ بأدبيّات حياةٍ ارتؤوا أنّها مُثلى، كما تسللت إلى «الحُجرات» المتعدّدة حديثة التنشّؤ في عقول مَنْ آثروا الانكفاءَ، وكابروا، ثم استجابوا على استحياءٍ.
في مثل هذه الطقوس القاهرة فعلاً، يُمسي الاستغرابُ وتصنّع الرفض ضرباً من السذاجة فعلاً، لأن الواقعيّة تقتضي محاولةَ الفعل لامجردَ الانفعال، وإلا سيبقى كثيرون أفواههم فاغرةٌ من هَول تتالي الصدمات.
ختاماً أسوقُ مثالاً.. يتداولُ مجموعةٌ من شبابنا الجامعيين أحدثَ الأسعار العالميّة لـ«الكافيار»، لأنّ أحدَهم يحاولُ تسويقَ كيلو من المادة في حوزته، ويحاولُ استخدامَ مهارات زملائه لتسويقه.
الحديثُ يجري تزامناً مع إيقاع صاخبٍ للتأفّف من ارتفاع أسعار البيض – بيض الدجاج طبعاً- في أسواقنا، والحالتان في حيّزٍ جغرافيٍّ ضيقٍ من بلد تقتضي المرونةُ ألا يستهجن الأولى، ولا تدهشُه الثانيةُ، لأن الاستهجانَ والدهشة فقط لا ينتجان تنميةً.