الحربُ الثانية و«نفيرُ الحكومة»
على الأغلب، سباقاتُ المسافاتِ الطويلة ليست سباقات سرعةٍ، بل اختبارات تحمُّلٍ، وفي نهاياتها ترتقي مقولةُ «يضحكُ كثيراً مَنْ يضحكُ أخيراً» لتكون حكمةَ الواجهة التي يردِّدها كلُّ متابعٍ.
نضحكُ كثيراً، نحنُ السوريين، اليومَ في نهاية جولةٍ طويلةٍ ومريرةٍ من حربٍ لم تكن كالحروب التقليديّة، وتستحقُّ أن توصف بـ «الملحمة» وفق أدبيّات التاريخ، إنْ وجِدتْ أقلامٌ صادقةٌ توثِّقُها.
لكنّ ثمةَ أدبيّات أخرى وتجاربَ كثيرة تُخبرنا عن جولاتٍ من طرازٍ مختلفٍ، هي استحقاقاتُ ما بعد الحروب، والجولةُ بالغةُ الدقّة مع ندّ اسمُه «التنمية» هذه المرّة، يقلّلُ بعضُنا من شأنه عندما نختصره بمصطلح «إعادة الإعمار».. و يا لَهُ من ندٍّ عنيد أصم وأبكم، لا يجيدُ لغةَ الإيحاء والإشارة، ولا يسمعُ عبارات الدفع المعنويّ، حتّى إنّه لايعترفُ بها.
بدأنا الجولةَ للتوِّ.. في بيئةٍ آخذةٍ بالارتسام لمصلحتنا، نحنُ الباحثينَ عن تموضُعاتٍ مؤاتية للانطلاق والفعل الحقيقيّ..بدأنا، ولايجوزُ أن يبقى بعضُنا مأخوذاً بنشوة «الضحك أخيراً»، أوغارقاً في دائرة سجالات حرب الاثني عشرعاماً، بكلِّ فصولها وطقوسها،وحتى شمّاعاتها؛ لأنها ألهبتْ «لوثةَ» الذرائعيّة البغيضة في أذهان الكثيرين بيننا.
الجولةُ بدأتْ بنفيرٍ عام، ويُفترض ألا يستثني أحداً، لكنّ إعلانه رسمياً تأخّر كثيراً، وهذا خللٌ تنظيميٌّ غير مفهوم المسوّغات !
انتصرنا في حربنا العسكريّة بالقوى المنظّمة وبالتخطيط والخطط والتنسيق..وهذا ما يلزمُنا بإلحاحٍ حالياً في المواجهة مع التنمية؛ لأن بعض مؤسساتنا مازالت تعيش رهاب الأزمة، وأخرى لم توقِظها طبولُ حربنا التي أسمعتْ كلَّ الدنيا، وثالثة تنتظر إشارات ومبادرات مَنْ يبادر عنها، ورابعة مشغولةٌ بإعداد مذكّرات تسويغ الإخفاق وتوزيعها في كلِّ اتجاهٍ.
في عقود ما قبل الحرب على بلدنا، كنا نعملُ وفق نهجٍ تنمويٍّ اقتصاديٍّ واجتماعيٍّ مخطّطٍ ، عرفناه تحت مسمَّى «الخطط الخمسيّة» كان آخرَها الخطةُ صاحبة الرقم (10) التي بعثرت أوراقَها الأزمةُ..وفي العام ٢٠١٩ أعددنا،على عجلٍ، الخطّةَ العشرية ٢٠٣٠، بسيناريوهاتٍ ثلاثةٍ كانت أقربَ إلى النبوءات والتمنّيات – بل الأوهام بصراحةٍ – وتالياً، بقيت مجردَ طموحاتٍ على الورق، ولا نتهمُ أحداً هنا؛ لأن الأفق كانَ ضبابياً أو حالكاً، لا يسمحُ بالاستشراف الموضوعيِّ.
لكنْ.. ماذا عن خطّتنا بشأن استحقاقاتنا التنمويّة اليوم بعدَ انجلاء الأفق؟ وإلى متى سيبقى «إطفاءُ الحرائق» منهجَ عملنا؟! علماً أنّ إطفاءَ الحرائق عملٌ جبارٌ وصعبٌ خلال الأزمات، وليس تهمةً ، لكنّ الحرائقَ أُخمِدتْ، وقُضي الأمرُ.
مؤسساتُنا مشتتةُ الرؤى إزاء القادمات من الأيام، مَنْ يبادرُ قد يُخطئ، ويتوجّسُ من المحاسبة، ومَنْ يفعلُ العكسَ سيبقى مطمئناً.
الجميعُ بحاجةٍ إلى خطّة شاملة متكاملة، توزّع الأدوار بدقّة بين كلّ مكوّنٍ فاعلٍ في هذا البلد، بدءاً من المؤسسات التنفيذيّة الرسميّة، مروراً بمؤسسات وهيئات قطاع الأعمال والمجتمع الأهلي، ووصولاً إلى المواطن، بما له من حقوقٍ، وما عليه من واجباتٍ أيضاً.
الخطةُ هي «النفيرُ العام» الذي تأخرَ إعلانُه..نفيرٌ يحدِّد الأهدافَ، ويرسمُ المسارات و يوزّعُ المهامّ،َ ويحصرُ المسؤوليات، ويُحاسب على النتائج، لا على النيّات، والأهمُّ أنّه يخلِّصُ القائمين على المفاصل التنفيذيّة من الارتباك والإحراج، و«حواشي» التسويف ورفع العتب التي يهربون إليها لتفادي اتخاذ قرارٍ حاسمٍ.
بانتظارِ الخطّة «النفير»؛ لأن في مثل هذه المراحل الحسَّاسة التي نمرُّ فيها يكونُ الوقت من ذهبٍ بكلِّ معنى العبارة ودلالاتها.