«مع ألان كورفيز» الخبير الاستراتيجي والديغولي بامتياز
تشرين- ادريس هاني:
كثيرة هي القناعات المشتركة بيني وبين ألان كورفيز، رؤية الأحداث من منظور أبعد مما تتيحه بعض المقاربات النمطية للأحداث الجيوسياسية، تكمن الحقيقة في التفاصيل التي نتجاهلها وأحياناً نجهلها، سيتجدد اللقاء مرة أخرى مع الصديق ألان غورفيتز، العقيد الفرنسي السابق الذي شغل منصب مستشار استراتيجي في وزارة الدفاع، وهو يقود مركز الدراسات الإستراتيجية، والأهم أنّه ديغولي بامتياز، وقد شغل أيضاً منصب مستشار لقائد قوات حفظ السلام في جنوب لبنان لعدة سنوات، وفي عزّ المعارك الضارية، وقد جمعتنا قبل أكثر من عشر سنوات رحلة استكشافية وتضامنية مع سورية في بداية الأزمة، قبل وصول بعثة محمد الدّابي المنتدب عن جامعة الدول العربية إلى دمشق، وكنت نقلت موقفه في كتابي: «ربيع الممانعة: مقاربة جيوستراتيجية للحرب على سورية من 2011 إلى 2014». وفيه عدّ، بوصفه عسكرياً، أنّ الجندي السوري كان يقوم بواجبه الوطني، لقد عاينّا معاً آثار عسكرة الاحتجاجات، والتقينا جرحى الجيش حينذاك بمستشفى تشرين العسكري.
اليوم ألان مفكّر وخبير بالشؤون السياسة والعسكرية والنزاعات، واضح في مقاربته للأحداث، وفيّ لما يحتاجه التحليل والرؤية من مفاهيم، تجعل السياسة لا تتنكّر للمعرفة، وفي هذا الإطار أخبرني بأنّ ديغول أُسيء فهمه، وبأنّ هناك من المواقف المهمة ما لم يتم تظهيرها، منها على سبيل المثال أنّه عارض نزول القوات الأمريكية في النورماندي، لأنّه كان يتوجس مما قد يترتب على ذلك من بناء قاعدة أمريكية دائمة في فرنسا.
أهمية الفلسفة هنا تكمن في إلحاحيتها بالنسبة لمحلل لتاريخ ومستقبل العلاقات الدولية، الجغرافيا السياسية لا تشذّ عن هذه القاعدة، ألان لم ينسَ نصيبه من الفلسفة، تحدثنا قليلاً في الفلسفة، وكان خلافاً للعديد من زملائه يمنح للمعرفة اهتماماً فائقاً، وكانت نميمتنا الفلسفية وكذا شيء من الإنصاف حول شخصيات مختلفة، كنت أسأل رأيه فيها، ومنها تيري ميسان، فرويد، رجيس دوبريه، ونيتشه.
تيري ميسان في نظر ألان، كاتب ذكي يمتلك معلومات مهمّة، فقط هناك ميل إلى بعض الغموض، أو بتعبير آخر شيء من الخيال الجانح، وهو نفسه الانطباع الذي أحتفظ به.
كما أن الموقف من ميشيل أنفري كان إيجابياً جدّاً، وحين بادرت للحديث عن سقوط صنم فرويد وما أثاره من ردود فعل من قبل قبيلة التحليل النفسي الفرنسية، أبدى ألان موقفاً متبرّماً من فرويد، فرويد في نظر ألان بالغ كثيراً، يكاد يقترب رأيه من نظرية المؤامرة، غير إنّه رقّق قليلاً من موقفه حين تناولت فرويد لاكانيا، في نظري أيضاً، فرويد يطرح تحدّي القراءة المستدامة.
ويحتفظ ألان لنيتشه بمكانة خاصة، ويروي لي أنّ رجيس دوبريه كان يلقي محاضرة في إحدى الأكاديميات العسكرية حيث حضر ألان، وعقب على دوبريه، بأنّه ربما لم يفهم نيتشه جيداً، يقول ألان، بأنه كان من المتوقع من فيلسوف كبير كرجيس دوبريه أن يقول بأنه مطّلع على نيتشه، وكيف يأتي ضابط عسكري ليقول لي إنني لم أقرأ نيتشه، لكن المفاجأة أنّ رجيس دوبريه قال معلقاً: نعم، عليّ أن أعيد قراءة نيتشه.
إنّ بعضاً من هذه المواقف أتقاسمها مع ألان، وأخرى حصل فيها نوع من التطابق، مثل بناء رؤيته في الحرب الروسية – الأوكرانية على الأدب الروسي، مستنداً إلى البعد الروحاني للمعركة والنزعة الأرثوذكسية المتعالية على الكنيسة الرومانية، ربما يرى في روسيا المنقذ من أخطاء الفاتيكان، فالكاثوليكية باتت عالمية بينما الأرثوذكسية وطنية.
عكف كورفيتز على أعمال دوستويفسكي، وفي «الأبله» سيجد عبارة أن عدم الاعتقاد في الشيطان هي فكرة فرنسية، بينما الشيطان يؤثر في العالم وخاصة في روسيا، فالليبرالية التي تواجه روسيا هي فكرة شيطانية آتية من الغرب، في «الجريمة والعقاب» سنجد اعترافاً لدوستويفسكي بتأثير المسيحية على سلامة الأرواح، وضرورة العودة إلى الأورذكسية لعلاج أمراض النفوس.
يرى ألان في «الشياطين» و«الأبله» وأيضاً «يوميات كاتب» بأنه أبرز من قدر روسيا الإنقاذي كـ«شعب مختار» بسبب أخطاء الفاتيكان التي تبنت أفكار القرن التي دعى إليها الفلاسفة الفرنسيون، وقد أظهرت تلك الروايات كيف كانت الأنوار الفرنسية التي تبناها الغرب، مصدراً للانحراف، إذاً، وهذا ما جعل ألان يرى في المظهر الجيو-لاهوتي للنزاع في أوكرانيا أمراً واضحاً، وهو ما يُضاف إلى المظهر الجيو-سياسي والإستراتيجي، وهو ما يجعله مقتنعاً بأن روسيا ستنقذنا من التدمير المضرّ والشيطاني والغربي، من خلال كسب هذا الصراع الوجودي.
يراهن ألان على عودة الديغولية أو إحيائها باعتبارها عنوان استقلال وسيادة فرنسا، وسيبقى الحديث عن الديغولية والديغوليين ذا شجون، تبقى فرنسا الديغولية، هي فرنسا التي فجأة وجدت نفسها في وضعية كفاح تحرري حين باتت في وضعية شعب مقاوم.