سقف الدين الأميركي.. اتفاق «لا غالب ولا مغلوب» لا ينهي الأزمة؟!
تشرين- د. رحيم هادي الشمخي:
على قاعدة لا غالب ولا مغلوب، تم التوصل إلى اتفاق مبدئي بين الجمهوريين والديمقراطيين، ينهي أزمة مستمرة منذ أسابيع بخصوص رفع سقف الدين الأميركي.. ووفق هذه القاعدة فإنّ أياً من الطرفين لن يحصل على ما يريده بشكل كامل.
وحسب الإعلام الأميركي، هذا الاتفاق سيرفع سقف الدين لمدة عامين، مع فرض حدود صارمة على الإنفاق الفيدرالي باستثناء ما يتعلق بالقطاع العسكري والمحاربين القدماء.
ويُنظر لهذا الاتفاق على أنه مرضٍ لكلا الطرفين، حيث يعدّ أعضاء الحزب الجمهوري أنهم حصلوا على مطلبهم وهو تقليص الإنفاق، إذ إنهم وضعوه شرطاً للموافقة على رفع سقف الدين.. وفي الوقت ذاته يعدّ أعضاء الحزب الديمقراطي أنهم حققوا هدفهم المتمثل بالاستمرار في دعم برامج المساعدات الداخلية.
هذا الاتفاق سيُعرض أمام المشرّعين يوم الأربعاء المقبل لمراجعته، وفي حال التوافق حوله خلال هذا الأسبوع، فقد يتم التصويت عليه في وقت مبكر من الأسبوع المقبل، ثم يُرفع إلى البيت الأبيض للتوقيع.
يُشار إلى أنه يمكن للمشرّعين رفع سقف الدين مؤقتاً لإعطاء العملية مزيداً من الوقت في سبيل إتمامها، ويبلغ سقف الدين 31،4 تريليون دولار، وكانت وزيرة الخزانة الأميركية جانيت يلين طلبت رفع هذا السقف إلى 50 تريليون دولار.
ما سبق، أي التوصل إلى اتفاق، كان متوقعاً رغم كل ما كان يُقال عن التعثر والمفاوضات الصعبة، إذ إنّ أياً من الجمهوريين أو الديمقراطيين لن يأخذ على عاتقه مسؤولية التخلف عن السداد وما يستدعيه ذلك من نتائج كارثية، وكلاهما متفق على أن التخلف عن السداد خيار غير مطروح، ما يعني أن الاتفاق حتمي.. وعليه يبدو أن معركة سقف الدين التي علا غبارها واتسع طوال الأسبوعين الماضيين لا تعدو كونها معركة سياسية بين الطرفين للضغط والابتزاز خصوصاً وأن كليهما يتجهزان لخوض السباق الرئاسي العام المقبل 2024.
لقد فعلوا ذلك أكثر من 100 مرة منذ الحرب العالمية الثانية، هذا ما يقوله المراقبون، الذين طالما أكدوا أن الطرفين سيتفقان في نهاية الأمر.. إذاً لماذا أثارت المسألة كلّ هذه الضجة والمخاوف من العواقب الكارثية داخل أميركا وخارجها، وما الذي تغير هذه المرة عن المرات الـ100 الماضية، وماذا يمكن أن يحدث إذا ما تخلفت الولايات المتحدة فعلاً عن السداد؟
كلها أسئلة باتت تطرح بشكل أوسع وأعمق، خصوصاً في ظل المتغيرات السياسية العالمية والمنافسة الاقتصادية التي تكاد تبلغ ذروتها بين الولايات المتحدة من جهة، والقوى العالمية الصاعدة من جهة أخرى، وعلى رأسها الصين وروسيا اللتان توسعان، بشكل متسارع، حضورهما السياسي والاقتصادي، عبر تحالفهما الثنائي من جهة.. والموسع من جهة ثانية من خلال تكتل بريكس ومنظمة شانغهاي.
– الكثير من المحللين الاقتصاديين يرون أن معركة سقف الدين لا تعدو كونها لعبة تبتز بها واشنطن العالم، أو بعبارة أدق «عملية احتيال مالي عالمي» فالولايات المتحدة تعيش فعلياً على حساب الدول الأخرى، لكن الذي تغير اليوم هو أن قدرة واشنطن على خدمة الديون بنفسها وبشكل مستقبل، بدأت تتقلص مع الزمن، ويضيفون: في العام الحالي 2023 قد تصل قيمة مدفوعات الفائدة على ديون الحكومة الأمريكية إلى 1.5 تريليون دولار – أي ما يقرب من ثلث جميع إيرادات الميزانية الأمريكية.. وهذا يحمل في طياته المزيد والمزيد من المخاطر» لذلك تتحول العديد من الدول إلى التسويات بالعملات الوطنية. الدولار بات عملة سامة فعلاً»، لذلك يجب على الدول التي تعتمد على الدولار أن تبدأ البحث عن بديل له بالفعل، وبالتالي ستقوم بتقليل مستوى المخاطر الذي يحوق بمواطنيها.
– فعلياً، دول عديدة بدأت هذا المسار وقطعت فيه شوطاً مهماً. مسألة أن أميركا باتت مأزومة اقتصادياً ومُستنزفة مالياً، لم تعد تخفى على أحد، خصوصاً بعد حرب أوكرانيا التي انقلب سحرها على أميركا، وبدلأً من أن تكون حرب استنزاف ضد روسيا، حدث العكس، وباتت هذه الحرب تستنزف أميركا سياسياً لناحية اتساع دائرة حلفاء روسيا والصين وشمولها دولاً عدة كانت تحسب حتى الأمس القريب على أنها أقوى حلفاء أميركا.. واقتصادياً لناحية أن هذه الحرب سرّعت أكثر فأكثر مسار اقتراب عصر الدولرة من نهايته «في تكرار لمصير الجنيه الإسترليني ما بعد الحرب العالمية الثانية»، حرب أوكرانيا وسعت دائرة الانشقاق العالمي عن أميركا، وأخطر ما في هذا الانشقاق ذلك المتعلق بالدول الإستراتيجية في غناها وثرواتها وموقعها والتي تكاد تكمل استدارة كاملة، بعيداً عن أميركا، لمصلحة خصميها الرئيسين روسيا والصين.
– لنأخذ مثالاً التصريحات الأخيرة لرئيس الوزراء الروسي ميخائيل ميشوستين، يوم الأربعاء الماضي، والتي قال فيها إن 70 بالمئة من التسويات المالية بين روسيا والصين يتم تنفيذها بعملتي البلدين الروبل واليوان. فيما يقول وزير الخارجية سيرغي لافروف: إنّ التحول نحو العملات المحلية في التسويات المالية بين الدول بدلاً من الدولار أصبح نهجاً لا يمكن إيقافه، وأن «دولرة» الاقتصاد العالمي تفقد زخمها.
– يُضاف إلى هذه التصريحات ما يمكن أن تتخذه قمة تكتل بريكس المقبلة، بداية حزيران المقبل، من قرارات بخصوص العملات المحلية، وتحييد الدولار.. هذا عدا عن الحديث عن أنها ستبحث في اقتراح إصدار عملة عالمية تكون بديلاً عن الدولار، تبدأ إقليمية في المرحلة الأولى، لتنطلق عالمياً بعدها.. وإذا ما اتخذت هذه القمة قراراً بضم دول جديدة للتكتل فلنا أن نتخيل قوة هذه العملة البديلة، أو حتى قوة العملات المحلية بين الدول الأعضاء بالنظر إلى الاتساع الجغرافي، والقوة الاقتصادية الكبيرة التي تشكلها دول مرشحة للانضمام إلى بريكس خلال القمة المذكورة.
– وفي اجتماع رؤساء المصارف الآسيوية الذي انعقد يوم الأربعاء الماضي «ويضم 9 دول» كان هناك تأكيد على أن العمل جارٍ لاستغناء هذه الدول التسع عن الدولار في تعاملاتها التجارية.
– أيضاً منظومة دول آسيان، وبحسب تصريحات العديد من أعضائها، تخطط للتعامل التجاري فيما بينها بعملاتها المحلية.
كل ما سبق، وغيره كثير، يجعل معركة سقف الدين في الولايات المتحدة، معركة مفصلية، بمعنى أنها أوسع وأعمق من معركة ضغوط وابتزاز بين الديمقراطيين والجمهوريين.. الاتفاق بين الطرفين على رفع سقف الدين، اتفاق مهم لناحية أنه ينهي معركة داخلية بات استمرارها مصدر خطر وقلق كبيرين في الداخل، لكنه في الوقت ذاته يطلق معركة خارجية أكبر وأخطر على الولايات المتحدة الأميركية.
كاتب وأكاديمي عراقي