ملف «تشرين».. التوسع شرقاً والبداية قد تكون عربية.. هل نشهد ولادة «بريكس بلس» الشهر المقبل؟.. «بريكس».. التكوين الديمغرافي والحضور الجغرافي والقوة الاقتصادية
ملف تشرين – مها سلطان:
لا نعتقد أن أحداً نسيَ مشهد أول «فيتو» مشترك رفعته كل من روسيا والصين في وجه الولايات المتحدة الأميركية، في تشرين الأول من عام 2011، رفضاً لمخططاتها العدوانية ضد سورية، الحرب الإرهابية على سورية كانت قد بدأت فعلياً، أي ميدانياً، في شهر آذار من ذلك العام، وكانت الولايات المتحدة جندت لها، مسبقاً، الإرهابيين من كل العالم ودعمتهم بالمال والسلاح.. ثم اتجهت لدعمهم سياسياً على المستوى الدولي/الأممي بقرارات تقوّي إرهابهم، في سبيل تسريع «سقوط» الدولة السورية، وإغراق البلاد في أتون اقتتال واحتراب داخلي/إقليمي، لا قرار له.
ذلك المشهد برأي المراقبين، وإذا ما وضعنا الحرب الإرهابية على سورية جانباً، ومن دون انتقاص طبعاً من أهمية الدورين الروسي الصيني في دعم سورية ميدانياً وسياسياً.. ذلك المشهد كان أول عرض قوة لمجموعة دول «بريكس»، منذ تأسيسها عام 2006، باعتبار أن قطبيها الرئيسين روسيا والصين، في هذا الـ «فيتو» المشترك، غير المسبوق، تقدمت «بريكس» إلى الميدان السياسي الدولي لتعلن عن حضورها، وتؤكد أنه لا يمكن تجاهل كلمتها على مستوى القرارات العالمية، وأن لديها مساراً مختلفاً عن أميركا وحليفتها أوروبا فيما يخص إدارة العالم والتعامل مع أزماته، هذا من جهة.. ومن جهة ثانية أنه لا يجوز لأميركا أو غيرها الاقتراب من دول، مثل سورية، تربطها علاقات تعاون أو تحالف أو صداقة مع روسيا والصين، وبقية دول بريكس: الهند والبرازيل وجنوب إفريقيا.
مشهد الفيتو المشترك تكرر 16 مرة من عام 2011 وحتى عام 2020 من عمر الحرب الإرهابية على سورية، وفي كل مرة كانت «بريكس» ترسل رسالة أقوى لأميركا وحلفائها بأن عالم القطب الواحد انتهى.. وأنها أمام خيارين: إمّا أن تقبل بعالم متعدد الأقطاب، وإما أن تختار المواجهة وتحكم على نفسها بالهزيمة.
أهم حلفاء أميركا وأغناهم وأقواهم باتوا يطلبون ودّ بريكس
ويرون أن مصالحهم مضمونة ومصونة أكثر مع هذا التكتل الدولي الصاعد بقوة سياسياً واقتصادياً
اليوم ونحن تقريباً في منتصف عام 2023، لم تعد بريكس بحاجة لتخيير أميركا.. أهم حلفاء أميركا وأغناهم وأقواهم، في مناطق متعددة حول العالم، باتوا يطلبون ودّ «بريكس»، ويرون أن مصالحهم مضمونة ومصونة أكثر مع هذا التكتل الدولي الصاعد بقوة سياسياً واقتصادياً.
ربما لم يخطر لأميركا، حتى في أسوأ كوابيسها، أن يتجه بريكس شرقاً، لتكون منطقتنا العربية في قلب عملية توسع كبرى قد يُقدم عليها تكتل «بريكس»، خلال قمته المقررة في 2و3 حزيران المقبل في كيب تاون عاصمة جنوب إفريقيا، هذا التوسع سيكون الثاني، بعد 13 عاماً من انضمام جنوب إفريقيا لبريكس في عام 2010.. هذا ونحن لم نتحدث عن إيران التي هي أيضاً في قلب عملية التوسع المحتملة، خصوصاً بعد الاتفاق التاريخي الموقع بينها وبين السعودية والذي رعته الصين في شهر آذار الماضي.. والسعودية على رأس قائمة الدول المرشحة للانضمام إلى «بريكس»، ولا يخفى على أحد أهمية هذا الانضمام وتداعياته إقليمياً ودولياً، آخذاً بالحسبان العلاقات السعودية – الأميركية.. لكن يبدو أننا كدول عربية أمام فصل جديد مختلف، وأمام مكانة ودور أكثر حضوراً وتأثيراً في خريطة عالم جديد يتشكل.
ربما لم يخطر لأميركا، حتى في أسوأ كوابيسها، أن يتجه «بريكس» شرقاً، لتكون منطقتنا العربية في قلب أكبر عملية تحول سياسي اقتصادي وفي الاتجاه المعاكس كلياً للهيمنة الأميركية
عندما عقد تكتل بريكس أول قمة له في يكاترينبرغ- روسيا، كان السؤال الرئيس الذي طرحه المراقبون مفاده: كيف يمكن لدول بعيدة جغرافياً مثل روسيا والبرازيل، ودول متباينة مثل الهند والصين وجنوب إفريقيا، أن تشكل تكتلاً اقتصادياً ينافس ويزاحم، ليكون في صدارة المشهد العالمي؟
اليوم، ما زال السؤال قائماً مضافاً إليه سؤال آخر مفاده: كيف يمكن لدول لها تحالفاتها التقليدية «وخلافاتها وأزماتها البينية وبعضها خطير ومستفحل» ومنها دول عربية، أن تسعى للانضمام إلى بريكس؟
حالياً.. لا بدّ من أن يتطور هذان السؤالان باتجاه سؤال ثالث متعلق بمنطقة نقدية واحدة تدرس دول «بريكس» إنشاءها من خلال عملة موحدة وذلك في القمة التي تلي القمة المقبلة لها في حزيران والتي ستبحث عملية التوسع.. أما القمة التي ستبحث العملة الموحدة فهي مقررة في آب المقبل، وليس بالضرورة أن يتجه القرار بشكل مباشر نحو إقرار عملة موحدة.. قد تكون البداية بالاتفاق على «عملة احتياط دولية» على أساس سلة عملات المجموعة.. ودول المجموعة بدأت منذ بداية العام الماضي، خصوصاً ما بعد الحرب الأوكرانية في شباط 2022 بالتعامل بعملاتها المحلية فيما بينها، هذه التعاملات بدأت بالتوسع شهراً بعد شهر، لتبداً دول «بريكس» تلمّس نتائجها الإيجابية وربما هذا ما دفعها إلى وضع مشروع العملة الموحدة كأولوية في المرحلة المقبلة إلى جانب مسألة التوسع الجغرافي.
يحضر تكتل «بريكس» في المنطقة كحليف مضمون وموثوق من جهة.. وكمنقذ اقتصادي من جهة ثانية.. ودائماً على قاعدة المساواة والمصالح المشتركة والمنافع المتبادلة
فعلياً لم يشهد تكتل «بريكس» منذ تأسيسه عام 2006 أي مناقشات بخصوص توسيع العضوية وذلك حتى عام 2017 عندما استضافت الصين قمة للتكتل لتطرح هذه المسألة وتدعمها روسيا في ذلك.
في الوقت الراهن.. هناك 19 دولة طلبت الانضمام لتكتل«بريكس» بينها خمس دول عربية، السعودية والإمارات والبحرين ومصر والجزائر «وهناك من يضيف أيضاً تونس والمغرب والسودان، وحتى سورية».. وعلى المستوى الدولي هناك: إيران، الأرجنتين، إندونيسيا، المكسيك، تركيا، أفغانستان، نيجيريا، اليونان، بنغلاديش، كازاخستان، السنغال، تايلاند.
ما يهمنا هنا هو المنطقة العربية، وحضور «بريكس» بين دولها ليس كحليف سياسي وإن كان هذا جانب مهم جداً، وإنما كمنقذ اقتصادي، ونقصد هنا الدول التي وقعت فعلياً تحت سطوة مؤسسات المال الدولية، صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، والتي هي مؤسسات تصب في خدمة الأجندات والأطماع الأميركية في أهدافها النهائية.. أما الدول الغنية، ونقصد هنا النفطية، فتجد في «بريكس» حليفاً مضموناً وموثوقاً، سياسياً واقتصادياً، وعلى قاعدة المساواة والمصالح المشتركة، أي على قاعدة الندية في المصالح والقرار والمكانة والدور، وخصوصاً أن هذه الدولة تنظر إليها «بريكس» كقوة اقتصادية كبرى قادمة.
الآن.. في حال إقرار التوسع فعلاً، وفي حال حساب التكوين الديمغرافي والحضور الجغرافي، والقوة الاقتصادية، عطفاً على المقدرات العسكرية، سنشهد ولادة «بريكس بلس» كـ«تجمع قطبي».. ثم باتجاه قطب عالمي على قاعدة التعددية، تحكمه رؤى سياسية على قاعدة استثمار كل فرص التنمية المتاحة لتحقيق التفوق الاقتصادي، وتالياً تحييد الدولار جانباً، وتحقيق الحماية من سياسات الابتزاز والضغوط الأميركية المتمثلة في العقوبات الاقتصادية.
بكل الأحوال، تبدو السعودية والإمارات والجزائر ومصر أول المرشحين للانضمام فعلياً إلى تكتل بريكس، ولا نأتي بجديد عندما نقول إن عملية التوسع تمثل فائدة مزدوجة للتكتل وللدولة المنضمة، فإذا أخذنا على سبيل المثال السعودية والإمارات فإنّ انضمامهما سيحول بريكس إلى نظام اقتصادي قوي بمفهوم ومعايير حديثة تواكب تحديات الاقتصاد العالمية، خصوصاً السعودية بقوتها النفطية وموقعها الجغرافي بين قارات ثلاث، وإذا ما تحدثنا عن انضمام مجمل دول الخليج النفطية فلنا أن نتخيل القوة المتعاظمة التي سيستحوذ عليها تكتل «بريكس» لناحية قوة التأثير في أسواق النفط والغاز العالمية ولناحية القوة المكتسبة بمواجهة الولايات المتحدة باتجاه التفوق عليها وإسقاط سلاحها الاقتصادي المالي المتمثل بالدولار.. ولكن بالمقابل أي فوائد وامتيازات ستحصل عليها دول المنطقة بالانضمام إلى «بريكس»؟
المراقبون يجملونها في عدة نقاط:
أولاً، الفوائد والامتيازات الاقتصادية والاستثمارية.
ثانياً، المساندة على النطاقين الإقليمي والدولي من خلال توسيع دائرة الشراكة والمصالح مع دول متقدمة مثل الصين وروسيا والهند والبرازيل.
ثالثاً، التكتل يعطي الدول الأعضاء نوعاً من التوازن ونوعاً من التبادل التجاري السريع لإنعاش اقتصادياتها، هذا عدا عن تنويع التحالفات التجارية وفتح أسواق جديدة أمامها.
رابعاً، وإذا ما أخذنا الدول النفطية، فإنّ الانضمام إلى «بريكس» يمنحها ميزة توسيع حجم أسواقها وتنويع المجالات التي تعمل بها لتتحول من الاعتماد على الطاقة فقط لتحقيق التنمية، إلى الاعتماد على التجارة والصناعات مع دول باتت في المراتب الأولى اقتصادياً على المستوى العالمي.
رابعاً، الاستفادة من التقدم التكنولوجي لدول «بريكس»، خاصة الصين.
خامساً، المساندة في إعادة التموضع السياسي والاقتصادي في ظل إعادة الهيكلة التي يشهدها النظام العالمي على جميع المستويات.
هنا لا بدّ من ذكر جانب في غاية الأهمية وهو أنه يجب عدم وضع جميع الدول المرشحة للانضمام إلى «بريكس» في سلة واحدة، وعليه ينطلق السؤال حول الدول الأخرى التي لا تملك القوة والغنى الاقتصادي، أو الدول التي لديها اقتصاد متذبذب، فيما تكتل «بريكس» قائم أساساً على الدول ذات الاقتصاد الكبير المستقر والمتوازن والدخل القومي المرتفع على المستوى العالمي؟
عملياً، ليست مسألة الانضمام إلى «بريكس» سهلة، هناك سلسلة معايير اقتصادية وسياسية لا بدّ من استيفائها، وهناك مرحلة العضو المراقب قبل مرحلة العضو الفاعل، أي إنه ليس من السهل على أي دولة دخول «بريكس» إلّا إذا كانت جاهزة تماماً، وبما أن عملية التوسع بانتظار ما ستقرر قمة حزيران المقبل، فلا بدّ من انتظار ما سيكون عليه مسار التوسع، وما إذا كان «بريكس» سيضم فعلاً دولاً ليست بالقوة الاقتصادية المطلوبة، أو هي غير مستقرة سياسياً.
السؤال الذي سيبقى من دون جواب: كيف يمكن لدول بعيدة جغرافياً «روسيا والبرازيل» ودول متباينة «الهند والصين» أن تشكل تكتلاً اقتصادياً ينافس ويزاحم ويتسيّد صدارة المشهد العالمي؟
منذ بداية هذه الألفية وأميركا «ومعها مجمل الغرب الرأسمالي» تترصد مسار دول بريك «روسيا، الصين، الهند، البرازيل» قبل انضمام جنوب إفريقيا إليها لتصبح دول «بريكس».. وللمفارقة، تسمية «بريك» هي تسمية غربية أطلقها جيم أونيل الرئيس السابق لمجموعة بنك غولدمان ساكس البنكية العالمية، منذ عام 2001 ، لوصف الأسواق الناشئة في كلٍّ من البرازيل وروسيا والصين والهند والتي كان يُنظر إليها منذ ذلك الوقت كقوى اقتصادية قوية ومنافسة للدول الغربية الكبرى.
في عام 2003 كتب جيم أونيل أهم وأخطر التقارير حول مجموعة «بريك» بعنوان «الحلم مع دول بريك.. الطريق إلى عام 2050» ومازال هذا التقرير مستقراً على طاولة الغرب الذي بدأ يرى كيف أن نبوءاته في طريقها إلى التحقق من دون أن يملك ما يمنعها، في هذا التقرير تنبأ أونيل بهيمنة دول «بريك» على الاقتصاد العالمي، حيث ستحل البرازيل محل إيطاليا في عام 2025 وتتفوق على فرنسا في عام 2031، وستتفوق روسيا على المملكة المتحدة في عام 2027 وعلى ألمانيا في العام التالي 2028، وتتفوق الصين على الولايات المتحدة في عام 2041 لتصبح أكبر اقتصاد في العالم، وتتفوق الهند على اليابان في عام 2032، هذا التقرير جعل دول بريك مشهورة، ووضعها نصب عين الولايات المتحدة الأميركية.
في نيسان الماضي تفوقت «بريكس» على مجموعة السبع الصناعية الأكثر تقدماً في العالم، وحسب صحيفة «لو جورنال ديمانس» الفرنسية فإنّ مساهمة «بريكس» في الاقتصاد العالمي بلغت 31،5% مقابل 30،7% لمجموعة السبع، هذا يعني- بالترجمة العملية – أن «بريكس» في طريقها لتكون بديلاً للكيانات المالية والسياسية الدولية الحالية بعدما بدأت كرمز للاقتصادات الأسرع نمواً في العالم، خصوصاً في ظل تقاطر الدول للانضمام إليها.
بكل الأحوال ستشكل القمة المقبلة بعد أيام لـ«بريكس» في كيب تاون عاصمة جنوب إفريقيا تاريخاً فاصلاً، فإذا ما تحولت إلى «بريكس بلس» كما هو متوقع عل نطاق واسع، والبداية من منطقتنا، فهذا يعني أن القطبية الواحدة التي تمثلها الولايات المتحدة مع «دولارها» بدأت طريق الانحدار.. ذهاباً من دون إياب.
أقرأ أيضاً: