ملف «تشرين».. بنك «بريكس».. التكتل وحده لا يكفي

تشرين- د. رحيم هادي الشمخي:
لم يَطل الوقت بدول «بريكس» لتدرك أن التكتل وحده لا يكفي، أياً كانت القوة الاقتصادية التي يستحوذها، وأياً كانت المساحة الجغرافية التي يمتد عليها.. إذ ما نفع ذلك إذا كان هذا التكتل ودوله تحت سطوة الدولار وهيمنته كعملة تداول عالمية تتسيد وتتحكم بمصائر الدول وأقدارها وفق الأجندات الأميركية وسياسات الابتزاز والضغوط التي تمارسها الولايات المتحدة الأميركية (والمؤسسات المالية الدولية الخاضعة لها) ضد جميع الدول، خصوصاً الخصوم، وعلى رأسهم الدول التي تتطلع للتحرر من عبودية النظام المالي الغربي.
إذاً كيف السبيل للتحرر من عبودية هذا النظام، وكيف يمكن بناء احتياطات من أصول لا يمكن استهدافها بالعقوبات؟
هذا ما عملت عليه دول بريكس، وتحديداً منذ عام 2009 عقب أزمة الرهن العقاري الشهيرة في الولايات المتحدة وما تبعها من تقلبات كارثية في الأسواق المالية العالمية.

الأهم في تأسيس بنك «بريكس» تأسيس بنك موازٍ هو بنك «احتياطي طوارئ بريكس»

والهدف بناء احتياطات من أصول لا يمكن استهدافها بالعقوبات

السبيل كان واضحاً لأن الهدف كان واضحاً، ولم يكد عام 2014 ينتهي حتى أبصر بنك بريكس النور تحت مسمى «بنك التنمية الجديد» ليبدأ العمل رسمياً في العام التالي 2015 من مقره في شنغهاي- الصين، وليكون معادل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي.. وبهدف نهائي هو الاستغناء عنهما وعن بقية المؤسسات المالية الدولية التي تعمل ضمن النظام المالي الدولاري.
الأهم في تأسيس هذا البنك أن دول بريكس أسست معه بنكاً موازياً تحت مسمى «ترتيبات احتياطي طوارئ بريكس» والهدف هو بناء احتياطات من أصول لا يمكن استهدافها بالعقوبات، كما ذكرنا آنفاً. بنك بريكس تأسس برأسمال مبدئي مقداره خمسون مليار دولار، فيما بلغ رأس المال الأولي لبنك احتياطي الطوارئ مئة مليار دولار.
جرى توزيع المساهمات بالتساوي بين مؤسسي «بنك التنمية الجديد» بحيث تكون للبرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا حصصاً متساوية، فيما تنص اللائحة التأسيسية على عدم امتلاك أي مساهم حق النقض (الفيتو) وأن يتوالى أعضاء بريكس رئاسته مداورة وألّا يُسمح لأي مؤسس بأن يرفع حصته من رأس المال، وبالتالي حصته التصويتية، من دون موافقة المؤسسين الآخرين، وألّا يقلّ رأسمال الأعضاء المؤسسين مجتمعين، أي دول بريكس، عند توسيع المصرف ليضم دولاً أخرى، عن 55% من رأس المال.
وعلى غرار مؤسسات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية (الاتفاقية العامة للتجارة والجمارك سابقاً) التي تأسست وفق اتفاقيات «بريتون وودز» الشهيرة عام 1944 عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، فإنّ مؤسستي «بنك التنمية الجديد» و«بنك احتياطي الطوارئ» تأسستا رسمياً عام 2015، بموجب اتفاق وقع في قمة بريكس السادسة في البرازيل عام 2014، ليؤديا الدور ذاته الذي كان يُفترض أن تؤديه مؤسستا البنك الدولي وصندوق النقد الدولي.
إذاً.. هدف «بنك التنمية الجديد» الرسمي هو التنمية، ولاسيما البنية التحتية، وبناء شراكات دولية وإقليمية تنموية واسعة النطاق، وهو يقدم القروض والضمانات للمشاريع التنموية، ويدخل شريكاً في تأسيسها، بغرض تحقيق ذلك الهدف.
أما بنك احتياطي طوارئ بريكس، فيقدم قروضاً قصيرة الأجل لمساعدة الدول على تخطي اختلالات موازين مدفوعاتها وضغوط السيولة، خصوصاً تلك الناجمة عن تدهور سعر صرف عملاتها نتيجة تقلب الظروف المالية الدولية، تماماً كصندوق النقد الدولي عند تأسيسه.
الفرق الجوهري في سياسات بنكيّ بريكس مقارنة بالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، هو أنهما لا يربطان قروضهما بشروط التصحيح الهيكلي وتحرير الأسعار وخصخصة القطاع العام وتقليص الإنفاق الحكومي وزيادة الضرائب عموماً مع خفضها على الشركات الكبيرة، ولاسيما الأجنبية منها.. وهذه سياسات تدميرية للدول، ولا تدخل تحت أي تصنيف كمساعدات لها لتخطي أزماتها المالية.
هذا الفرق الجوهري قدم للدول خياراً بديلاً للقروض الدولية ونموذجاً في التعامل المالي لا يمس بسيادة الدول ولا يتعدى على صلاحياتها الاقتصادية ولا يفرض عليها شروطاً سياسية.
بكل الأحوال يمكن تسجيل تطورين أساسيين هما اللذان سرّعا في عملية إنشاء بريكس مؤسسات مالية خاصة بها:
الأول؛ تمثل بالعقوبات التي فرضها الغرب على روسيا بعد استعادتها القرم في عام 2014 الأمر الذي حسم كلياً أي أوهام بإمكانية الانخراط على قدم المساواة في النظام الاقتصادي الدولي السائد (ومن هنا تحديداً بدأ التفكير بإقامة نظام مالي خاص من ضمنه إيجاد عملة احتياط دولية أكثر تنوعاً بعيداً عن هيمنة الدولار الأميركي).
التطور الثاني كان في الصين مع وصول الرئيس شي جين بينغ إلى الحكم في عام 2013 ما أسفر عن تحولات نوعية في سياسات الصين الخارجية.

مع ذلك ورغم الأهمية الكبيرة لتأسيس هذين البنكين، فلا يمكن القول إنهما باتا منافسين لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، بشكل كامل، لكنها في الطريق إلى ذلك حتماً في ظل القفزات الواسعة التي يحققها تكتل بريكس اقتصادياً على المستوى العالمي، وإذا ما تمكن بريكس من الوصول إلى مرحلة تخطي مجموعة السبع الصناعية الكبرى، حسب البيانات الصادرة عن الغرب نفسه في نيسان الماضي، فإن هذين البنكين بلا شك سيتحولان إلى منافسين حقيقيين في المستقبل القريب جداً.
وعموماً هذا يحتاج بشكل أساسي إلى توسعة المساهمات الرأسمالية في البنكين، بمعنى؛ زيادة عدد الدول المشاركة فيهما، وهذا ما تعمل عليه دول بريكس.. ففي عام 2021 انضمت للبنك كلٌّ من الإمارات ومصر والأوروغواي وبنغلاديش.
كثير من الخبراء الاقتصاديين الوازنين حول العالم يرون أن بنك بريكس، بنك التنمية الجديد، بإمكانه أن يقدم إسهاماً كبيراً في تصحيح مسار الاقتصاد العالمي «من خلال تسهيل الانتقال إلى أقطاب جديدة للنمو والطلب، والمساعدة في إعادة التوازن إلى المدخرات والاستثمارات العالمية، وتوجيه السيولة الفائضة باتجاه استخدام الإنتاجية» بحسب البيانات المنشورة من قبل البنك بتاريخ 2022 .
ولن يكون بنك التنمية محركاً للنمو المستدام في العالم النامي والعالم الناشئ فحسب، بل سيعزز أيضاً الإصلاح في المؤسسات المالية المتعددة الأطراف الموجودة، هذا أمر سينعكس بفوائده على الجميع، سواء في العالم متقدم النمو، أو في العالم النامي.
مجلة «نيوز ويك» وفي أحد مقالاتها في نيسان الماضي نقلت عن زونغ يوان زوي ليو، المسؤولة في مجلس العلاقات الخارجية الصيني، قولها: إنّ بنك التنمية الجديد التابع لتكتل بريكس «هو مثال رائع فيما يتعلق ببنوك التنمية متعددة الأطراف غير الغربية التي تحاول تعزيز آلية تمويل التنمية البديلة التي لا يهيمن عليها الدولار أو المعيار الأميركي أو الغربي».
فيما عدّت صيحفة «لو جورنال دو ديمانش» الفرنسية، في تقرير لها في نيسان أيضاً، وبعد أن سجلت الأرقام الاقتصادية تفوق بريكس على مجموعة السبع الصناعية الكبرى: هذا التفوق إلى جانب التفوق الديموغرافي يدحض الأساطير حول الدول النامية ويثبت بادرة ظهور قوى متقدمة على الولايات المتحدة.
ووفقاً لشركة الاستشارات البريطانية Acorn Macro Consulting تحظى «بريكس» حالياً بوزن اقتصادي أكبر من الدول السبع الأكثر تطوراً من الناحية الصناعية؛ إذ توفر 31.5 % من الناتج المحلي الإجمالي العالمي مقابل 30.7 % لمجموعة السبع، مشيرة إلى أن الاتجاه الصعودي لدول بريكس سيستمر.

كاتب وأكاديمي عراقي

اقرأ أيضاً:

تقاطعات «بريكس- شنغهاي».. إعادة هيكلة عالمية وفق ركائز اقتصادية سياسية أمنية

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار