خريطةُ طريقِ البقاء
بما قلَّ ودلّ، اختصَرَ السيدُ الرئيسُ بشارُ الأسدُ في كلمته أمامَ القمّة العربيّة في جدة، استحقاقاتٍ عميقةً لمواجهة تحدّيات لا ترحمُ، ربما باتت مصيريّةً اليومَ أكثر من أيِّ وقتٍ.
«هي فرصةٌ تاريخيّة لإعادة ترتيب شؤوننا بأقلِّ قدرٍ من التدخّل الأجنبيّ، وهو ما يتطلبُ إعادةَ تموضعنا في هذا العالم الذي يتكوّن، كي نكونَ جزءاً فاعلاً فيه، مستثمرين في الأجواء الإيجابيّة الناشئة عن المصالحات التي سبقت القمةَ وصولاً إليها»…عباراتٌ بمنتهى الدقّة والصراحة، تختصرُ الأجندةَ المفترضةَ للعمل العربيِّ المشترك في زمن التكتّلات التي تتكفّل ببقاء حيّزٍ مَهيبٍ للبقعة الجغرافيّة المترامية في هذا العالم التي اسمُها «الوطنُ العربيُّ».
نعَم.. عالمٌ يتشكّل، ويولدُ بارتساماتٍ مختلفةٍ، ولابدّ من التقاط «المماسك» الأساسيّة للتحوّل، وهذا ما لا يمكنُ إلا ببلورة كيانٍ عربيٍّ حقيقيّ متكاملٍ ومتماسكٍ، فمنطقُ الأشياء بمستجدّاتها يحتمُّ خلقَ القناعة والاقتناع بأنه آنَ للعرب أن يكونوا فاعلينَ لا منفعلينَ.
ما بعدَ القمّة سيدخلُ العربُ اختباراً مصيريّاً، في مدى قدرتهم على إنجاز كيانٍ يتيحُ القرارَ المستقّل، وسيكونون فرادى أمام اختباراتِ جرأةٍ في صدّ محاولاتِ الاستفراد والاستدراج، وهذه الأخيرةُ هي الثغرةُ التي طالما كانت بوابات الرياح العاتية التي بعثرت الأوراقَ، وشتّتها إثر الرياح المتقلّبة في كل صوبٍ واتجاهٍ.
ستُمعن الولاياتُ المتحدةُ في تهديداتها بشأن التعاون مع سورية، وستزيدُ من التلويح بـ«فزّاعاتها» التقليديّة، وهنا يكمنُ أصلُ الحكاية التي ينتظر العالمُ تفاصيلَها وفصولَها الجديدة، هنا تحديداً يكمن الاختبارُ الصعبُ.
أميركا هدّدت الصينَ، وأنذرت بحربٍ عالميّة، عبر العجوز «كيسنجر» في إطلالاته الإعلاميّة المدروسة بخبثٍ، لكن الصينَ ماضيةٌ في مشروعها الاستراتيجيِّ لكسر قواعد الهيمنة، ولم يتردّد كثيرون في هذا العالم في القفز من مركب «العم سام» والالتحاق بـ «بريكس» والقطب الصاعد بقوةٍ بدتْ أسرعَ بكثير ممّا توقّع كلُّ مراقبٍ.
لدى العرب أوراقُهم الرابحةً والرابحةُ جداً التي تمكّنهم من أن يقولوا «لا» عندما لا تكونُ ثمةَ مصلحةٌ في خدمة التكتّل المفترض إحياؤه بسرعةٍ، ولا يهمُّ ماذا سيكون المسمّى.. أعملاً عربيّاً مشتركاً مُمأسساً بعنايةٍ، أم سوقاً عربيّة أم منطقة حرّة كبرى، أم اتّحادات نوعيّة..المهمُّ أن يتمّ إيجادُ كيانٍ متماسكٍ متعدّد الاختصاصاتِ من السياسيّ إلى الاقتصاديّ والاجتماعيّ.
لقد وضعَ السيدُ الرئيسُ بشاُر الأسدُ النقاطَ على الحروف بحذاقةٍ ودقّةٍ، ودوماً كانت سورية رائدةَ العمل العربيّ المُشترك، وضحّت كثيراً في سبيل هذا الهدف..ولعلَّ الجميعَ يستطيعُ أن يلمسَ حجمَ التقهقر الذي مُني به هذا المفهومُ بمؤسساته خلال حقبة غياب سورية عن جامعة الدول العربيّة، فلعلَّ عودتَها ستكونُ فرصةً لإعادة إنعاش مشروع كادَ يحتضرُ.