«البحارُ الخمسةُ» والورقةُ السوريّة الرابحةُ
أمّا وأنه لامسافات أمانٍ يضمنُها بقاءُ الدول والشعوب في كيانات منفردةٍ، فالتكتلاتُ الاقتصاديّة الإقليميّة ستكون هي الخيارُ الاستراتيجيُّ الحقيقيُّ.
بعيداً عن الانزلاق القسريِّ في دوّامات الأحلاف السياسيّة القديمة البائدة التي لم يكن الباقي منها أكثرَ من مجردِ حالةِ استلابٍ وإذعانٍ بغيضةٍ، و الـ«ناتو» مثالٌ صارخٌ يتحدّث عن نفسه بلا طول شروحاتٍ.
فثمة واقعيةٌ اليوم تُملي التسليمَ بأن الاقتصادَ يقود السياسةَ أو على الأقل بتلازم الجانبين، لتغدو التكتّلاتُ الاقتصاديّة صاحبةَ النصيب الأوفر في واجهات علاقات هذا العالم الذي يتشكّلُ من جديدٍ بكل معنى الكلمة.
وقد يكون إقليم «الشرق الأوسط» بامتدادات ودلالات أوسع قليلاً من مجرد «أوسط»،هو الحالةُ الأكثرُ وضوحاً لاختصار التحوّلات العميقة الجارية اليومَ.
ما يجري اليوم هو تجسيدٌ – ولو جزئيٌّ – لفكرة ربط «البحار الخمسة» التي طرحها الرئيس بشار الأسد منذ نحو عقدٍ ونصف عقدٍ من الزمن، فكرةٌ تم استهدافها أمريكياً من جملة ماتمَّ استهدافَه، وتمَّ إخراجُ أو خروج تركيا منها، في سياق الحرب الإرهابيّة التي أديرت على سورية، وما استتبعته من اصطفافاتٍ دوليّة.
في رأينا .. فكرة «البحار الخمسة» تعود لإحياء نفسها بمشروع «الحزام والطريق» الذي تسير تطبيقاتُه بتسارعٍ اليوم، ولا يمكنُ أن يكتمل من دون سورية/ الدولة والجغرافيا/ كما إيران، فـ«دكتاتورية الجغرافيا» مصطلحٌ بالغُ الواقعيّة، وعلينا ألا نتردَّد في التعاطي معه على أنه ورقةٌ رابحةٌ بامتيازٍ.
سورية ثمَّ العراق فإيران..بالامتدادات متعدّدة الجهات للدول الثلاث، هي المرتكزُ المتينُ لتكتّل إقليميّ يكمّل البعدَ الأشمل للقطب الجديد الصّاعد بهويته الاقتصاديّة القائمة على توافقات سياسيّة في نهج السلام والوئام، لا الهيمنة ولا السطوة ولا نزعات القرصنة التي بدأ العالم «يتقيّؤها» بعدَ أن أحدثتْ ما أحدثتهُ من تشوهاتٍ ورضوضٍ كادت تودي بالشعوب.
في الأمس كانت الزيارةُ – الحدثُ – للرئيس الإيرانيّ إلى دمشق، بمعطيات مكثّفة، تلخّصُ الرؤية المتكاملة للتوجّه نحو خلق موازين قوّة تفرضُ نفسَها بأدوات واقعيّة راسخة لا افتراضيّة عائمة، وقبل يومين كانت اجتماعاتُ اللجنة العليا السوريّة -العراقيّة في دمشق، وقبلها اجتماعاتُ اللجنة السورية – الإيرانية…هي بداياتٌ مطمئنةٌ لولادة إقليم اقتصاديّ متماسكٍ متكاملٍ مترابطٍ بشرايين دفّاقة للحياة الاقتصاديّة.
الواقعُ، أن تسارعَ الأحداث والخطوات باتجاه تبلور أقطابٍ أو قطبٍ عالميّ يطوي صفحاتٍ مريرة من ممارسات «القرصنة» الأميركية والغربيّة، هو أقربُ إلى الحلم القديم الذي طالما تعثّر..لكن هاهو يتحقّقُ، ولعلّ الاتساع المطّردَ لـ«منظومة بريكس» يتيح لنا أن نطلق العنانَ لجرعة كبيرة من التفاؤل بمستقبل شعوب هذا الشرق العريق.
فبعد عقد ونيّفٍ من الزمن يتأكّدُ العالمُ أن نهجَ « التوجّه شرقاً» الذي أعلن عنه الرئيسُ الأسد، هو الخيارُ الاستراتيجيُّ الحكيمُ، وعلى مَنْ استغربوا، واستهجنوا حينها، حتى هنا بيننا، نحنُ السوريينَ، أن يعاينوا المشهدَ الجديدَ، ويتعلّموا.