«حرب البذور» الأميركية.. العراق ثم سورية أول ميادينها العسكرية
تشرين- د. رحيم هادي الشمخي:
هل كان ضمن بنك الأهداف الأميركية من غزو العراق عام 2003 السيطرة على عملية إنتاج البذور ونقلها من المرحلة الوطنية إلى مرحلة الاستيراد؟ وبما يجعل قطاع الزراعة العراقية مرتبطاً كلياً بالمحتل، ومن ثم التسلل إلى سورية لاحتلال أخصب الأراضي فيها وللهدف نفسه؟.. وبما أن الزراعة وكل ما يتعلق فيها هي أساس الأمن الغذائي لأي دولة، فإنّ هدف المحتل الأميركي طويل الأمد هو السيطرة على الأمن الغذائي في كل من العراق وسورية، وغير خاف على أحد أن الولايات المتحدة الأميركية تخطط وتعمل منذ عقود للتحكم بسوق البذور العالمية وصولاً للتحكم بالأمن الغذائي العالمي، وهذا الهدف يستدعي التركيز على دول بعينها تصنف بأنها أصل البذور، بمعنى أنها الموطن الأصلي لأهم أنواع البذور التي تنتج أهم المحاصيل الزراعية الإستراتيجية في إطار الأمن الغذائي للدول وللعالم، وعلى رأسها القمح.. وعندما نتحدث عن المواطن الأصلية للبذور «والزراعات بشكل عام» فنحن هنا نتحدث بشكل أساسي عن سورية والعراق، ومجمل ما كان يُسمى منطقة الهلال الخصيب.
أميركا حوّلت سوق البذور العالمية إلى ميدان عسكري تشعل من أجله
الاضطرابات والانقلابات.. وإذا لم تنجح تتحوّل إلى شن الحروب
المخططات الأميركية للسيطرة على سوق البذور العالمية تحوّلت مع بدء هذه الألفية إلى صراع حقيقي، مع تنبّه الدول إلى هذه المخططات والسعي لمواجهتها، ورغم أن أغلب محطات هذا الصراع غير مُعلنة، أو لنقل لا يجري تسليط الأضواء عليها بصورة كبيرة، لأن أميركا ما زالت تحقق نجاحاً في التعتيم عليها، ولأن الصراعات العسكرية ما زالت تأخذ كل التركيز.. رغم ذلك فإن الولايات المتحدة الأميركية حوّلته إلى ميدان عسكري تشعل من أجله الاضطرابات والانقلابات، وإذا لم تنجح هنا تتحول إلى شن الحروب.
لذلك يُنظر إلى غزو العراق على أنه إحدى محطات الصراع على سوق البذور العالمية، أو حرب البذور كما اتفق مؤخراً على تسميته، ولنعيد التذكير هنا ببرنامج «النفط مقابل الغذاء» الذي كان العنوان الرئيس للحصار الأميركي للعراق ما قبل الغزو والذي استمر منذ بداية عقد التسعينيات حتى الغزو عام 2003.. وللأسف فإن هذا العنوان فرضته أميركا تحت غطاء أممي، مكّنها من وضع يدها على نفط العراقيين، مقابل توزيع سلل غذائية لهم محدودة الكمية والحجم، بإشراف أممي، لتكريس مزاعم وأكاذيب شرعية الغزو، وكل ما تقوم به أميركا من أعمال سلب ونهب لخيرات العراق وأهله إلى جانب الإرهاب الذي عممته ونقلته إلى سورية.
أكثر من ذلك، يمكن عدّ غزو العراق على أنه أول حرب عسكرية في ميدان حرب البذور.. كيف؟
حتى نفهم علينا العودة إلى الأسابيع الأولى مباشرة بعد الغزو، وعلينا تحديداً سرد ما قام به بول بريمير الحاكم الأميركي للعراق، صاحب الـ100 أمر كما يسميه العراقيون.
وفيما كانت المنطقة منشغلة كلياً بالغزو وكوارثه وتداعياته عليها، وفيما غرق العالم في جدل سفسطائي لم ينتهِ حتى الآن، حول ما إذا كان الغزو قد قام على حقائق أم أكاذيب حول امتلاك العراق أسلحة دمار شامل، من دون أن يعني ذلك أن أحداً سيحاسب أميركا على أكاذيبها وجرائمها بحق العراق وأهله.. كان بول بريمر ينفذ الأجندة الخفية للغزو والتي لم تتكشف كوارثها إلّا مؤخراً، وحتى لو تم تكشفها لا نجد من يهتم أو يلقي بالاً لمسألة أن هذا الغزو كان جزءاً من حرب البذور التي تشنها الولايات المتحدة على الجميع، بمن فيهم حلفاؤها.
كان العراق حقل التجارب الأول عربياً للبذور الأميركية المعدلة وراثياً، أو المعقمنة، أي الصالحة للزراعة لموسم واحد فقط.. وكان بريمر هو من مهد هذا الحقل عبر ما يسمى «خطة المئة» أي الأوامر الـ100 آنفة الذكر وعلى رأسها الأمر رقم /81/ الذي اتخذ اسماً قانونياً مخادعاً هو «براءة الاختراعات والتصميم الصناعي وسرية المعلومات والدوائر المتكاملة وتنوع المحاصيل». ينص القانون على «يحظر على المزارع العراقي حفظ البذور أو مشاركتها مع غيره أو إعادة زراعتها» وهو ما أجبر المزارعين العراقيين على الاعتماد على الشركات الأجنبية- الأميركية طبعاً- للحصول على البذور المعدلة وراثياً كل عام لزراعتها، وعليهم كذلك دفع رسوم سنوية لها عن براءة الاختراع إضافة إلى ثمن البذور المعقمنة.. وعليه بات قطاع الزراعة في العراق رهناً بالشركات الأميركية، وعلى رأسها شركة مونسانتو، وبات مستقبل الزراعة العراقية وتالياً الأمن الغذائي العراقي مرهوناً بهذه الشركات. ويتحتم علينا هنا العودة إلى عدة دراسات وأبحاث صدرت قبل الغزو الأميركي للعراق عام 2003 وتتحدث عن أن شركات البذور الأميركية تركز عينها على العراق وقطاعه الزراعي، ومنها دراسة للباحث الأميركي وليام انغداهل حول العراق باعتباره حقل التجارب الأول عربياً لشركة مونسانتو الأميركية، حيث يقول: «لم يكن من المثير للدهشة أن تصدر جامعة الدفاع الوطني التابعة للبنتاغون قبل حرب العراق عام 2003 نصاً يعلن أن الأعمال الزراعية تمثل للولايات المتحدة ما يمثله النفط للشرق الأوسط.. لقد أصبحت التجارة الزراعية سلاحاً إستراتيجياً في ترسانة القوة العظمى الوحيدة في العالم».
غزو العراق كان أول حرب عسكرية في ميدان حرب البذور بدليل خطة المئة
التي طبقها بريمر وفق قاعدة “لن نبقي في العراق زرعاً ولا حرثاً”
وعليه لم يكن مستغرباً أن أولى الضربات الأميركية استهدفت بنك البذور الأكبر في العراق، وللمصادفة كان ذلك البنك هو مركز أبو غريب نفسه، المكان الذي حوّلته قوات الاحتلال إلى شاهد تاريخي حي على جريمة احتلالها للعراق وما اقترفته بحق الشعب العراقي، سيبقى سجن أبو غريب تذكيراً دائماً لنا نحن في العراق وفي كل المنطقة بأن الولايات المتحدة الأميركي رمز كل الشرور في العالم.
قبل الغزو كان المزارعون العراقيون يحصلون على البذور من مصدرين رئيسين، محصول العام السابق الذي تشرف الدولة على استخلاص البذور منه، وتدير عملية التوزيع على المزارعين، أو التبادل المباشر بين المزارعين.
كان المسؤول عن معالجة البذور وترخيصها وتنميتها واكتشاف الأنواع الجديدة وتخزينها، المؤسّسة العراقية لتنمية البذور، ومركز تكنولوجيا البذور، ومؤسّسة ما بين النهرين للبذور. كانت هذه جميعاً – مع الدولة – تمتلك 17 مركزاً للبذور، داخل كل منها أيضاً وحدات تخزين. تتم إدارة المؤسّسات الثلاث عبر المجلس الوطني للبذور، ويتم توزيع البذور عبر الشركة الوطنية للتوزيع. كانت هذه الجهات مجتمعة تعلن في كل عام، عن أصناف جديدة للبذور «عمليات تهجين وليس تعديلاً جينياً».
أيضاً، وفي سياق الحفاظ على جينات البذور، كان للعراق بنك وطني يحتفظ ببذور تعود لآلاف السنين، خصوصاً بذور القمح بجميع أنواعها، ومركز للدراسات والبحوث الزراعية، وآخر للثروة الحيوانية نظراً لارتباط القطاعين.
كل هذه المراكز دمرها المحتل الأميركي على قاعدة «لن نبقي في العراق زرعاً ولا حرثاً».
لجأ المزارعون العراقيون إلى التكثير اليدوي لكن المردودية ضعيفة، خصوصاً في ظل سطوة الشركات الأميركية، وذلك حتى عام 2012 وصدور القانون رقم خمسين الذي يدعو إلى تسجيل واعتماد وحماية الأصناف الزراعية الوطنية، والمستنبطة من قبل باحثي العراق، والاستمرار في دعم المزارعين بالبذور.. ويمكن القول إن الحال تغيّرت بعد عام 2012 حيث عمل العراقيون باتجاه حماية بذورهم الوطنية والتصدي لتلك الأجنبية، وقد نجحوا في ذلك إلى درجة كبيرة.
طبعاً ليس العراق وحده المستهدف فقط في حرب البذور الأميركية، بل كل المنطقة العربية، خصوصاً الدول التي تمتلك مساحات زراعية كبيرة وخصبة «مصر، اليمن، الجزائر، السودان على سبيل المثال» تنتج منها أهم المحاصيل الإستراتيجية التي هي عماد الأمن الغذائي، الذي هو أساس قوة الجبهة الداخلية ومنعتها وبما يصب في المحصلة الكلية في تدعيم أركان الدولة وصمودها بمواجهة التحديات الداخلية والخارجية.
كاتب من العراق
اقرأ أيضا: