77 عاماً على اندحار المحتل الفرنسي.. السوريون أرادوه جلاء كاملاً ناجزاً وكان لهم ذلك.. واليوم يناضلون ليكون نصرهم ملء الدنيا وسيكون لهم ذلك
تشرين- مها سلطان – بارعة جمعة:
ما زلنا وسنبقى نسميه: الجلاء.. تفرداً وامتيازاً، وما زال وسيبقى يومنا الوطني الأغر.. البداية لسورية الدولة والسيادة والمكانة والقرار.
ما زلنا نسميه: الجلاء.. التسمية تكاد تخص السوريين وحدهم، اختاروها بعناية ودقة، فما حدث في يوم 17 نيسان 1946 كان أكبر من استقلال، لم يكن مجرد خروج لقوات أجنبية غازية محتلة، بل كان تماماً بالمعني الحرفي «اللفظي» لكلمة الجلاء أي الخروج الواضح البيّن، الكلي والنهائي.. دون قيد أو شرط.
لنوضح أكثر..
– عندما نقول جلاء المحتل الفرنسي عن سورية فهذا لا ينسحب فقط على الجلاء العسكري، بل يتضمن جلاء المحتل بكل ما هو مرتبط به، بمصالحه وقطاعاته التي أنشأها على الأرض بـ«ثقافته» التي حاول أن يفرضها علينا.. بأدواته.. بعملائه وأزلامه.. الجلاء الذي حققه السوريون كان كاملاً، لم يبق لفرنسا ما يمكن لها أن تعول عليه لتعود، أو لتعيد إنتاج احتلالها بأدوات أخرى وخدع جديدة.. كان العالم حينها – في أربعينيات القرن الماضي – يتشكل من جديد ويعيد ترتيب أوراقه وأولوياته، وكذلك كانت سورية بعد تمزيق وجه الاحتلال، تبني نفسها وقوتها.. وصمودها.
– امتازت سورية بجلاء ناجز، بعكس دول أخرى استقلت نظرياً بينما بقيت بمضمونها تعتمد على أدوات المحتل وترتبط بمصالحه، للبقاء وليس للتطور والازدهار، وحتى لو تغير الحال فيما بعد وحققت «تطوراً وازدهاراً» فهو أيضاً كان مرتبطاً بالمحتل وبمصالحه أولاً، وإن كان اختلف وجه الاحتلال، فهذا لا يغير واقع الحال.
– امتازت سورية بجلاء أنجزته موحدة أرضاً وشعباً، لم ينجح المحتل الفرنسي في تقسيم سورية رغم محاولاته المستميتة في سبيل ذلك.. وكما احتفال العام الأول 1946 كانت احتفالات الأعوام والعقود اللاحقة تعم سورية كلها «وصولاً إلى السوريين في دول الاغتراب».. لم يختلف السوريون يوماً على هذا العيد أو على من صنعه، لم يختلفوا في أنهم تفردوا باستقلال ناجز ناصع لا تشوبه شائبة.. استقلال لكل السوريين، ليس محسوباً على حزب أو طائفة أو دين أو على «نظام».. أجدادنا وآباؤنا هم من صنعوا يوم الجلاء، ونحن الأبناء كنا نحتفل به، وأذكر أننا في مدارسنا وجامعاتنا ومعاهدنا ومعاملنا كنا نستعد لاحتفالات يوم الجلاء لأسابيع قبل اليوم الموعود.. ثم، كنا نحتفل وكأننا تماماً في يوم 17 نيسان 1946، وكأننا نحن من قاتلنا المحتل الفرنسي وانتصرنا.. وها نحن نحتفل اليوم.
– بدأت سورية عهد الجلاء كدولة ديمقراطية برلمانية استمرت واستقرت رغم ما شهدته من اضطرابات ما بعد جلاء المحتل الفرنسي، وبعضها كان بتحريض خارجي، لكن إرادة السوريين وتلاحمهم وقوة انتمائهم كانت تنتصر في كل مرة.. وفي كل عام كان عيد الجلاء المناسبة الأهم لشحذ الهمم ومواصلة مسيرة التطور والبناء وتعزيز أركان الدولة السورية المستقلة.. وهذا ما كان، وفي كل عيد جلاء كان السوريون يجمعون معاً حصاد عام مضى، متطلعين إلى عام جديد أفضل.
الجلاء الذي أنجزه السوريون كان أكبر من استقلال.. كان اندحاراً للمحتل بكل ما هو مرتبط به.. بأدواته وعملائه وأزلامه.. اندحاراً كلياً نهائياً دون قيد أو شرط
هكذا كنا.. وكان فرحنا واحداً، لم نكن نسأل عن انتماءاتنا، لم نكن نجادل ونحكم ونتشدد في مَنْ يحق له الاحتفال، وفي مَنْ لا يحق له، لم تكن تعنينا الانتماءات، نشأنا في سورية وتربينا دون أن يهتم الواحد منا بانتماء الآخر، كان من المعيب أن نسأل أحداً عن دينه أو طائفته أو مذهبه، أو أن تكون لنا أحاديث طائفية مذهبية.. بالنسبة لنا كان شريكنا في الاحتفال سوريّاً وحسب، وهذا يكفي، وهذا ما يهم.
الجلاء صنعه كل أبناء سورية على اختلاف انتماءاتهم وطوائفهم ومذاهبهم، وحتى على اختلاف تياراتهم الفكرية والثقافية، وهذا كان امتيازاً آخر ليوم الجلاء.
على هذه النقاط آنفة الذكر جرى التآمر، ولسنوات عديدة قبل بدء الحرب الإرهابية على سورية عام 2011.. وكان عيد الجلاء إحدى القضايا التي تم العمل عليها وتحديداً لناحية تقزيمها وطنياً واجتماعياً وإنسانياً، عبر ربطها بحزب و«نظام».. كان الضخ الإعلامي الفتنوي هائلاً، مترافقاً مع ضخ إرهابي بشري من كل أنحاء العالم.. أرادوا دفن يوم الجلاء، ومسحه من تاريخ السوريين، من احتفالاتهم الجامعة، من ذاكرتهم الوطنية.. أرادوا أن تولد الأجيال المقبلة من السوريين بلا تاريخ، بلا ذاكرة، إلا من ذاكرة الحرب والدمار.. ومن طائفية بغيضة تحدد انتماءاتهم وعلاقاتهم مع بعضهم البعض.
قد يكون حلف العدوان نجح في السنين الأولى من الحرب، أو هكذا هُيّئ له.. لقد كان حجم العدوان والتآمر كبيراً صادماً عجز السوريون عن استيعابه وأربكهم في المرحلة الأولى عن سرعة الرد، فكانت التداعيات صادمة بدورها.. كانت المؤامرة هائلة بحجم ما كان عليه الاستقلال الوطني والإجماع الوطني والانتماء الوطني، لكن السوريين المتأصل فيهم الوطن أولاً وآخراً، استطاعوا الخروج من كلتا الصدمتين ليستعيدوا زمام الأمور، ولتبدأ مسيرة جمع الوطن وأبنائه، وهذه تبدأ من القضايا الوطنية الجامعة، من المحطات التاريخية الوطنية المشرفة، من انتصارات كانتصار يوم الجلاء.
امتازت سورية بجلاء أنجزته موحدة أرضاً وشعباً..جلاء ينتمي إلينا جميعاً.. لم يختلف السوريون يوماً عليه أو على من صنعه.. لم يختلفوا أنهم تفردوا باستقلال ناصح ناجز لا تشوبه شائبة
77 عاماً مرت على جلاء آخر جندي فرنسي عن أرض سورية.. العالم تغير مرات عدة، تفككت دول واتحادات، سقطت قوى وصعدت أخرى، اندثرت تكتلات وتشكلت أخرى، وكانت الحروب والأزمات سمة أساسية في كل منها، فيما كان يُفترض أن يكون العالم أكثر سلاماً واستقراراً بعد الحرب العالمية الثانية، وما أنتجه تحالف المنتصرين من منظمات ومؤسسات وهيئات دولية في سبيل ذلك.. وما زال العالم يتغير وينقلب من حال إلى حال، وما زالت سمته الأساسية الحروب والأزمات، ولم تكن المنطقة والدول العربية فيها بمعزل عن كل ذلك، كان لها نصيب من كل حرب وكل أزمة.. وكانت سورية دائماً في الواجهة.. موقعها الجيوسياسي لم يكف عن وضعها دائماً في عين العواصف شرق الأوسطية.. هي مفتاح المنطقة ومفتاح السيطرة عليها.. منذ غزو العراق 2003 انقلب وجه المنطقة دون أن يستقر، واليوم تشهد منطقتنا مزيداً من التحولات الإستراتيجية ضمن عالم يجدد أقطابه وتحالفاته.. اليوم سورية أفضل حالاً، السوريون أكثر تفاؤلاً، وأوسع ثقة بأن صمودهم، مع جيشهم وقيادتهم، سيثمر قريباً، وسيقطفون ثماره.. وطناً سيعود حراً سيداً على كل أراضيه.
الجلاء أبرز القضايا التي عمل عليها تحالف العدوان سعياً لتقزيمها وطنياً واجتماعياً وإنسانياً.. أرادوا دفن يوم الجلاء ومسحه من تاريخ السوريين ومن ذاكرتهم الوطنية.. أرادوا للأجيال المقبلة أن تولد بلا تاريخ بلا ذاكرة إلا من ذاكرة الحرب والدمار والفتنة
لا ننكر أن احتفالاتنا بعيد الجلاء – منذ بدء الحرب الإرهابية على بلادنا- لا تخلو من الغصّة، لكنها بالمقابل لا تخلو من التفاؤل.. والتفاؤل هو الجزء الأهم في معركة صمود السوريين، وكان الأكثر استهدافاً.. تحالف المتآمرين والمعتدين لم يفهم يوماً ذلك السر الكامن وراء تفاؤل السوريين رغم شراسة الحرب.. سر البساطة والطيبة مع إيمان لا يتزعزع بأن «الشعب إذا أراد يوماً الحياة.. لا بد أن يستجيب القدر».. في أي يوم من أيام الحرب لم يشهد السوريون ضعفاً أو تهاوناً من دولتهم، رغم الأزمات المتعددة والكبيرة التي أفرزتها الحرب، ودفعت بالدولة السورية في بعض الأوقات للتأخر أو لاستمهال الحلول أو لأخذ وقت وجهد أكبر في سبيل حلها.. قوة الدولة السورية ومواقفها واستمرارها متماسكة تواجه وتتحدى وتتصدى، عززت من حالة التفاؤل لدى السوريين، وقوتهم في معركة الصمود والصبر رغم ما يمرون به من أزمات معيشية خانقة بسبب الحرب الاقتصادية الإرهابية التي يفرضها المحتل الأميركي.. ربما لم يشهد شعب في هذا العالم ما شهده السوريون على مدى سنوات الحرب من فظائع ومآسٍ، أي واحدة منها كانت قادرة على دفعه إلى حافة اليأس والانهيار، لكن هذا لم يحدث.. قارع السوريون بتفاؤلهم أعتى هجمة إرهابية واستطاعوا احتواءها لتتحول اليوم إلى مراحلها الأخيرة، بانتظار النصر النهائي.. يرونه بعيداً ونراه قريباً.. ومن كان لديه تفاؤل السوريين وإيمانهم بالنصر.. لا غالب له.
اليوم 17 نيسان 2023 تحل الذكرى الـ 77 لعيد الجلاء، ولن يكون إلا عيداً للسوريين، لكل السوريين، يشحذ الهمم ويعمق الصمود، فمن قهر المستعمر العثماني ثم الفرنسي، وأنجز الاستقلال وبنى دولة قوية الأركان عزيزة منيعة.. قادر على تحقيق الانتصار مهما بلغت المؤامرة، ومهما امتد العدوان وتعددت أطرافه.
أقرأ أيضاً: