ملف «تشرين».. «العطاس الأمريكي» يصيب العالم بالزكام.. ظنون بـ «الافتعال» تغلف انهيارات البنوك.. والاقتصاد العالمي في خطر
من «سيليكون فالي» أميركا إلى «كريدي سويس» أوروبا.. هل بات العالم على أعتاب أزمة مصرفية عالمية، هل خرجت الأمور عن سيطرة البنوك المركزية الفيدرالية، وإلى أي مدى يجب أن تقلق أسواق المال والأعمال.. أم إن وراء الأكمة ما وراءها؟
أسئلة بدأت تفرض نفسها، وخاصة أن بنك «كريدي سويس» السويسري، الذي يُخيم عليه شبح الانهيار، مُصنّف من بين 30 بنكاً عالمياً، حيث أخفقت حتى الآن جميع محاولات الإنقاذ، سواء بضخ الأموال، أو بالاستحواذ، ما يجعل الأسواق في حالة قلق وترقب دائمين، ليس فقط من مسألة أن العالم تخيّم عليه أزمة مالية عالمية، بل لأن هناك ما هو غير مفهوم وغير منطقي في هذه القضية منذ بدايتها بانهيار بنك سيليكون فالي الأميركي، ثم تسلسلها باتجاه الكثير من التحذيرات حول سلسلة البنوك الأميركية التي ستتبع خط انهيار سيليكون فالي، لكن الذي حدث أن البنك التالي كان بنك كريدي سويس الأوروبي، وهذا انتقال دفع بالأسئلة باتجاهات نحو ما إذا كانت أزمة سيليكون فالي برمتها أزمة مفتعلة لتحقيق غايات أميركية، لم تتضح كامل أبعادها بعد.
بكل الأحوال، إذا كانت الأزمة مفتعلة أو غير مفتعلة، فهذا غير مُبشر، اقتصادياً.. ولا سياسياً، وهذا يعني أن لا فرصَ أمام كريدي سويس للنجاة، وأن هناك بنوكاً أخرى مرشحة للسيناريو نفسه قريباً، لكن المفارقة أنها ستكون- على الأغلب- بنوكاً أوروبية وليس أميركية.
تشرين – مها سلطان:
إلى حدٍّ ما، لكن ليس لوقت طويل.. تمكنت الإدارة الأميركية من محاصرة تداعيات انهيار بنك سيليكون فالي، غير أن تقديرات المحللين الاقتصاديين ما زالت تحافظ على بث إشارات سلبية في الأجواء، محذرة من أن سيليكون فالي ليس سوى مقدمة لسلسلة انهيارات مقبلة، فعلياً شهدنا انهيار بنوك أخرى بالتزامن هما: «سيلفرجيت» و«سيغنتشر» وهناك ستة بنوك أخرى ضمن دائرة الخطر هي: فيرست ريبابليك، كوميريكا، ويسترن أليانس، زايونز، سينوفوس، وكريدي سويس.
إذا كان بنك سيليكون فالي من البنوك المتوسطة وأزمته برأي
الاقتصاديين حالة فردية فلماذا أثار كل هذه المخاوف أميركياً وعالمياً؟
الآن، في حال صدقت توقعات المحللين وبدأت سلسلة انهيارات في المصارف الأميركية، فإن الحديث عندها لن يكون حديثاً محصوراً بالمقارنة مع أزمة الرهون العقارية في عام 2008 التي انفجرت بعد انهيار بنك ليمان برذرز، وإنما سيكون حديثاً عن انهيار كامل النظام المصرفي الأميركي، وعن تداعيات ستضرب عالمياً، قياساً للارتباط العميق بين النظامين المصرفيين العالمي والأميركي بفعل هيمنة الدولار كعملة دولية، ولم يعد خافياً أن مسألة الارتباط العالمي اقتصادياً بالولايات المتحدة الأميركية هي الضمانة الأساسية التي يحافظ من خلالها الاقتصاد الأميركي على بقائه قوياً ومسيطراً، فهذا الارتباط يجعل الجميع حول العالم له مصلحة أساسية، لا بل الجميع يعمل في سبيل أن يبقى الاقتصاد الأميركي قوياً ومتماسكاً، رغم أن هذا الأمر يُعدّ سلاحاً أميركياً فتاكاً ضد الجميع.
لن تنتهي قضية سيليكون فالي قريباً وإن تم احتواؤها.. التحذيرات تتركز على سلسلة إفلاسات صغيرة تقود إلى إفلاس كبير يضع أميركا في موقف لا تحسد عليه
هذا في ظاهر الصورة، فهل هناك من باطن مختلف لها؟
خلال قرن مضى رأينا كيف أن الولايات المتحدة كانت قادرة دائماً على إيجاد حلول من قلب الأزمات، وبعضها كان من شأنه أن يؤدي بها إلى التهلكة، من المفاوضات التي جرت في «بريتون وودز 1944» ما بعد الحرب العالمية الثانية، حيث كان الصراع على زعامة العالم بين المنتصرين على أشده.. إلى ربط الدولار بالذهب.. ثم ربطه بالنفط.. ثم أزمة عام 2008 حيث تصدر النفط الخليجي مرة أخرى عملية إنقاذ الاقتصاد الأميركي، ووصولاً إلى الصراع مع روسيا والصين الذي بلغ ذروته خلال العام الماضي وهذا العام، بدءاً من حرب أوكرانيا إلى الاتفاق السعودي- الإيراني، مروراً بالتكتلات الإقليمية الاقتصادية، والعودة إلى العملات المحلية، والاستقطابات السياسية، ومخاض نظام عالمي جديد.. وغيرها مما وضع الولايات المتحدة مرة أخرى في المنطقة الحمراء.
كل ذلك يطرح نظرية أخرى لمسألة انهيار بنك سيليكون فالي، إذ إن المحللين أنفسهم الذين يتحدثون عن مخاطر الانهيار ويحذّرون من انهيارات مقبلة هم أنفسهم يتحدثون عن أن سيليكون فالي هو من البنوك المتوسطة، وهو بنك تخصصي «عملاؤه شركات تكنولوجية حصراً» وتالياً تأثيره سينحصر في قطاع التكنولوجيا، وهذا مختلف عن إفلاس بنك ليمان برذرز عام 2008 أكبر بنوك الاستثمارات في الرهن العقاري في الولايات المتحدة، وصُنف حينها بالإفلاس الأكبر في التاريخ الأميركي، ليدخل العالم بعدها في أسوأ أزمة اقتصادية منذ الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن الماضي، الذي قاد إلى الحرب العالمية الثانية التي خرجت منها الولايات المتحدة قطباً مهيمناً.
إذا كان سيليكون فالي من البنوك المتوسطة التخصصية، وأزمته برأي الاقتصاديين حالة فردية، فلماذا أثار كل هذه المخاوف أميركياً وعالمياً؟
برأي المحللين الاقتصاديين، الأسواق بالمجمل باتت حساسة تجاه أي حالة إفلاس أو انهيار مالي حتى لو كان صغيراً، لأن هذا يوسع من دائرة عدم التنبؤ، أي الأحداث التي يصعب التنبؤ بها مسبقاً في النظام المالي الأميركي، وعليه تتسع التوقعات بإفلاسات جديدة في الأيام المقبلة لكن على مستوى الولايات وليس على مستوى بنوك قيادية، من دون استبعاد إفلاس بنك كبير في غضون الأشهر القليلة المقبلة.
هذا ما يقوله الاقتصاد، فماذا تقول السياسة؟
عودة أميركية إلى الاقتصاد لتطويع السياسة.. عودة إلى التأزيم لحلحلة قضايا سياسية هي في جذرها اقتصادية ضمن صراع نفوذ اقتصادي عالمي مع روسيا والصين
في السياسة، تتزاحم الأسئلة:
– ماذا لو كان إعلان إفلاس سيليكون فالي أمراً متعمداً وفق خطة محددة الزمان والمكان والهدف؟
– ألم يكن هناك تصريح لأحد مسؤولي البنك بأن إعلان الإفلاس كان مفاجئاً لهم؟
– هل كان سيليكون فالي هو البنك الأنسب للزج به في هذه الخطة بحيث إنه يمكن افتعال أزمة.. وفي الوقت نفسه التأكد فعلياً من إمكانية احتواء التداعيات والنتائج في الوقت المحدد؟
– ألم يعدّ كبار المحللين الاقتصاديين في الغرب أن أزمة سيليكون فالي هي حالة فردية سببها الرئيس البنك نفسه بانكشافه على قطاعات بعينها وتحديداً التكنولوجيا، ما جعله عرضة للخسائر مع جفاف منابع التمويل لهذا القطاع في ظل ارتفاع أسعار الفائدة إلى أعلى مستويات الـ4% مع احتمالات كبيرة للركود الاقتصادي؟
– أيضاً، ألم يعدّ المحللون أنفسهم أن الاقتصاد الأميركي متين بما يكفي لاحتواء مخاطر عدوى سيليكون فالي وفق خطة محكمة لحماية البنوك تم وضعها بعد انهيار بنك ليمان برذرز عام 2008؟
إذاً، هناك عودة أميركية إلى الاقتصاد لتطويع السياسة، بمعنى عودة إلى الأزمات، إلى التأزيم، لحلحلة قضايا سياسية هي في جذرها قضايا اقتصادية، ومن ضمن صراع النفوذ الاقتصادي العالمي مع روسيا والصين.
لنوضح أكثر.
– لا شك في أن حرب أوكرانيا بدأت تتخذ مسارات لا تريدها الولايات المتحدة.. وعطفاً على اتساع قاعدة النفوذ الصيني- الروسي انطلاقاً من هذه الحرب نفسها، وعطفاً أيضاً على أن هذا النفوذ لن يتوقف بل سيزداد ويتوسع باتجاه جميع الساحات الأميركية عالمياً، فإن الولايات المتحدة تجد نفسها أمام خيارين أحلاهما مرُّ: إمّا أن تتخلى عن حرب أوكرانيا معترفة بنصر روسي فيها.. وإّما أن تسعى للتهدئة مع أهم المناطق النفطية الحليفة لها، أي منطقة الخليج، والسعودية تحديداً، وتالياً القبول بالاتفاق السعودي – الإيراني والاعتراف بفوز الصين في أهم ساحاتها الاستراتيجية، اقتصادياً وعسكرياً.
إما هذان الخياران… وإما افتعال أزمة مالية
– لاحتواء مسار انحسار النفوذ والهيمنة لا بدّ من افتعال خضّة اقتصادية عالمية، عندها فقط ترضخ السياسة للاقتصاد ويجلس الجميع على طاولة واحدة للتفاوض والتقاسم، أميركا تعتقد أنها تستطيع وقف عملية الاستدارة العالمية باتجاه روسيا والصين، هذه الاستدارة ما زالت تحتاج لسنوات وإن كان الخبراء يؤكدون أنها لن تتجاوز عام 2030 لكن حتى هذا التاريخ تستطيع أميركا فعل الكثير.
– النفوذ العالمي يستند إلى أمر واحد فقط هو الاقتصاد، والنفوذ الاقتصادي يتحقق إما بالسياسة (الصين) وإما بالحرب (أميركا) ولأن هذه الأخيرة لا تعرف سوى لغة الحرب ولأن نفوذها الاقتصادي ينحسر، فلنتوقع حرباً عالمية، إذا لم تنجح خطة افتعال أزمة اقتصادية عالمية عبر سيليكون فالي.. أو عبر بنك «قيادي» في حال اختارت واشنطن توسيع الخطة تسريعاً للوصول إلى النتائج المحددة، واستباقاً لمزيد من التطورات العالمية لمصلحة روسيا والصين.
في حديثه لـ«تشرين» حول إفلاس سيليكون فالي، أسبابه وتداعياته وارتباطاته، يقول الخبير العسكري والسياسي وفيق نصور: العلاقة بين الاقتصاد والسياسة علاقة مترابطة جداً، فالسياسة هي ملعقة الاقتصاد، وطاولة الأطباق هي من تحدد حركة الملعقة واتجاهها، برأي نصور، تبعاً لأنواع الطعام ووفرته، والمعادلة حقيقة بطرفيها، الأول سياسة والثاني اقتصاد.
أميركا أمام خيارين: التخلي عن أوكرانيا معترفة بفوز روسيا،أو التهدئة مع السعودية معترفة بفوز الصين.. واستبعاد الخيارين معناه أنّ أميركا تخطط لافتعال أزمة مالية عالمية
بعيداً عن كل ما سبق، كان متوقعاً أن تدخل أزمة سيليكون فالي في سباق الانتخابات الرئاسية الأميركية كقضية أساسية بات الحزبان الرئيسيان، الجمهوري والديمقراطي، يتقاذفان المسؤولية عنها، وتالياً عن كل ما أصاب الاقتصاد الأميركي من تعثر خلال عقد مضى، ما بعد الصعود الصيني – الروسي. جدال من غير المتوقع أن يُحسم، أياً يكن الفائز، جمهورياً كان أم ديمقراطياً.
في كل الأحوال، من غير المتوقع أن تنتهي قضية سيليكون فالي قريباً حتى إن تم احتواؤها، فإذا لم يكن في القضية «إنّ» سياسية… فإن حالة عدم اليقين ونقص الثقة سيقودان حتماً باتجاه أزمة أخرى. سلسلة إفلاسات صغيرة تقود إلى إفلاس كبير، وإذا ما أخذنا بالحسبان اتجاه الرياح الاقتصادية العالمية، فإنّ الولايات المتحدة ستكون في وضع لا تحسد عليه.
أقرأ أيضاً: