ملف «تشرين».. زلزال سورية يُعري الغرب.. الأوروبي مُعلق بالأمريكي والأخير يراهن على الوقت لتجاوز الارتباك السياسي والحرج الأخلاقي
تشرين- مها سلطان:
في كارثة الزلزال الذي ضرب سورية في 6 شباط الماضي.. راهن الغرب على الوقت للتخلص من أمرين: الارتباك السياسي، والحرج الأخلاقي الإنساني، وعندما نقول الغرب فهذا يعني الأمريكي والأوروبي، وإن كان الثاني أكثر ارتباكاً وحرجاً، أيضاً لأمرين: تبعيته للأمريكي أولاً.. ثم ذلك الشعور المتعاظم بأنه بات خارج الحسابات الأميركية والدولية، وخارج حسابات منطقتنا ثانياً.
شهر وبضعة أيام على الكارثة، هل كان رهان الغرب صائباً؟
خلال هذا الشهر انطلقت نظريتان: الأولى أن الغرب أضاع الفرصة مرة ثانية، لتحسين صورته العالمية، كان بإمكانه أن يبدأ مجدداً من هنا، من سورية لإبراز وجه إنساني لزعامته العالمية القائمة على الحروب والخراب والتدمير، كان بإمكانة تحقيق إدارة سياسية ناجحة لمسألة تقديم الإغاثة لمنكوبي الزلزال، وألّا يتردد في أن يكون أول المستجيبين، ففي هذا فائدة مزدوجة له، على مستوى المنكوبين وعلى المستوى الدولي، كان بإمكانه ألّا يربط هذه الاستجابة بخيارات ضيقة وغايات سياسية مخزية، وبما يضاعف من قبح صورته ودوره في سورية، والإقليم عموماً، لكنه لم يفعل، كل ما فعله أنه فوَّت الفرصة وكشف عن وجه لا يعرف الرحمة.
النظرية الثانية متعلقة بالأوروبي الذي فقد – في حرب أوكرانيا- ما تبقى له من سيادة وكرامة، ورغم أن دائرة كوارث الأوروبي لم تكتمل بعد، إلّا أن الصدامات الدولية التي تقودها الولايات المتحدة وتجره إليها، كفيلة بأن تكمل هذه الدائرة، وعلى المدى القريب جداً، كان بإمكان الأوروبي، أيضاً، أن يبدأ مجدداً من هنا، من سورية، لتحسين موقعه في المنطقة، وعلى مستوى التأثير الدولي، كان بإمكانه إبراز وجه إنساني بعيداً عن تبعيته للأميركي، إذ تفترض الكوارث الإنسانية أن يتوحد الجميع خلفها في الاستجابة والإغاثة، هذا أمر تطوعي ذاتي ولن يكون محل إدانة أو انتقاد، أي إن الولايات المتحدة لا تستطيع هنا أن تفرض الالتزام بعقوباتها على سورية لأن مستوى وحجم الكارثة يتقدم على ما عداه، وتالياً تتقدم الحالة الإنسانية على كل إلزام سياسي، وهو هنا إلزام عدواني إرهابي بعقوبات تضاعف حجم الكارثة الإنسانية وتعوق كل جهد لتجاوزها أو التحفيف من آثارها.
الأمريكي والأوروبي في ميزان واحد.. متى كان للغرب وجه إنساني؟
الأوروبي أيضاً فوَّت الفرصة، تردد وارتبك سياسياً وإنسانياً، وفشل في إظهار وجه إنساني لتعامله الشعب السوري المنكوب بكارثة الزلزال وقبله بـ12 عاماً من الحرب الإرهابية والحصار الأميركي الجائر، تفويت الفرصة كان خطأ كبيراً ارتكبه الأوروبي بنفسه، لم يفرضه عليه أحد، كان على الأوروبي أن ينطلق من خساراته نفسها ميدانياً وسياسياً، من المنطقة، مروراً بإفريقيا، وأخيراً في أوكرانيا، وربما كانت هذه الأخيرة هي أكثر ما سبب عمى البصيرة للأوروبي فهامَ سياسياً وإنسانياً، لا يعرف هل يبقى معلقاً ومتعلقاً بالأمريكي أم يبتعد عنه.. والأهم هل يستطيع الابتعاد؟.. ربما كان الأشد قسوة هنا إدراكه أنه لا يستطيع الابتعاد، خصوصاً في ظل الانزياحات الدولية العميقة والكبرى والتي تحشره أكثر فأكثر خلف الأمريكي، ليخرج في كل مرة بكارثة.
الغرب فوَّت الفرصة.. كان بإمكانه أن يبدأ من سورية نفسها لتحسين صورته ومواقفه بعيداً عن الخيارات الضيقة والغايات السياسية المخزية
ما بين النظريتين هناك من يقول إن الغرب لم يكن في وارد كل ما سبق، فهو لم يراهن على الوقت، ولم يرتبك أو يتردد، ولم يتحرّج من تسييس مسألة المساعدات، وعمل على تشغيل آلته الإعلامية بأقصى طاقتها لرمي الكرة في ملعب المنكوبين «وحكومتهم».. ثم من قال إنّ الغرب مهتم بإظهار وجه إنساني لدول وشعوب لا يرى فيها إلّا ميداناً للحرب والنهب؟
هذا القول ليس خاطئاً كلياً ولا صحيحاً كلياً (ونقصد هنا أن الغرب ليس في وارد كل ما سبق).
– ليس خاطئاً كلياً، لأن الأمريكي في هدفه الأساس لا يمكن أن يسمح لزلزال الإنسانية الذي هزّ العالم عقب زلزال 6 شباط الماضي أن يؤثر في أجنداته وأطماعه الاستعمارية في سورية والإقليم، وعليه لا بدّ أن يُبقي سيف العقوبات مُسلطاً إلى جانب التواجد العسكري الاحتلالي، هذا أمر ليس في وارد المراجعة أو إعادة الحسابات، لكن ما يمكن فعله هو الالتفاف والتحايل والمناورة والتضليل، وهذا ما فعله عندما عمد إلى كذبة تخفيف الحصار.
– وليس صحيحاً كلياً، لأن الأمريكي- وهو تحت ضغط الحرج الدولي الذي انتجته حملات التضامن الشعبية العالمية مع منكوبي زلزال سورية – وجد أنه لا بدّ من إظهار بعض الاستجابة، وكان ذلك عبر ما سماه «الترخيص» لمرور المساعدات وأموال الإغاثة إلى المنكوبين خارج إطار العقوبات لمدة ستة أشهر، أما على أرض الواقع فإن التطبيق كان خلبياً، وأكثر من ذلك عمدت الولايات المتحدة إلى استغلال الترخيص نفسه لمضاعفة الضغط على الدولة السورية عبر وضعها في موضع الحرج وبأنها هي من يعرقل وصول المساعدات.. هذا هو أقصى ما أمكن للأمريكي أن يظهره من «إنسانية» معتمداً على الأوروبي في التصديق والترويج.
في كارثة الزلزال ارتبك الأوروبي إنسانياً لتبعيته سياسياً للأمريكي رغم أن الإغاثة هي عمل تطوعي ذاتي يُفترض ألّا يكون خاضعاً لتبعية أو لإلزامات سياسية
الأوروبي بدوره اتبع الأمريكي وأعلن في 23 شباط الماضي ما سماه تخفيفاً للعقوبات مدة 6 أشهر، اختار الأوروبي أن يلتزم العقوبات الأمريكية، وعلى أساسها سوغ غيابه عن ساحة الفعل الإنساني، ودائماً بذريعة أنه يجب ألّا تكون الحالة الإنسانية بوابة سورية لكسر العزلة والحصار، اقنع الأوروبي نفسه بهذا المقولة التي هي مقولة الأميركي نفسه، أو ربما هو اختار الانصياع لها إرضاء للأمريكي بغض النظر عن مسألة القناعة.. وعليه استمرت الحالة الإنسانية للأوروبي في أدنى مستوياتها، وبما لا يذكر.. واستمر الأوروبي في ترديد المقولات الكاذبة نفسها التي خرجت بعد أسبوع من وقوع الزلزال، وهي أن العقوبات لا تطبق على المعونات الإنسانية، المبعوث الأوروبي إلى سورية دان ستوينيسكو زعم أنه من غير الإنصاف اتهام الاتحاد الأوروبي بعدم تقديم مساعدات كافية للسوريين المنكوبين بالزلزال.. وزيادة في الكذب زعم أن الاتحاد الأوروبي لم ينقطع منذ 12 عاماً عن تقديم المساعدات للسوريين وأن الدولة السورية هي من يسعى إلى تسييس المساعدات والاستفادة من الإعفاءات المتعلقة بالعقوبات.
هذا الكذب الممنهج يأتي على قاعدة أكذب أكذب واستمر في الكذب، فلا بدّ أن يصدقك أحد في نهاية المطاف، علماً أن هذه القاعدة تحولت في عصرنا هذا إلى واحدة من أغبى القواعد المتبعة في الدعاية والترويج، لأن العالم وشعوبه بات أذكى وأكثر خبرة وتجربة من أن تنطلي عليها أكاذيب الغرب.
بكل الأحوال.. أراد الغرب، الأميركي والأوروبي، أن يقارب مسألة المساعدات والإغاثة من دون أن يكون هناك تغيير جوهري في مقاربات المجتمع الدولي تجاه الأزمة السورية، بمعنى ألّا تصل هذه المقاربات إلى مستوى مطالبة أميركا بأن تنهي العقوبات أو تسحب قواتها من الأراضي السورية التي تحتلها وتنهب خيراتها وأرزاق أهلها.. أو تتخلى عن أجنداتها الاستعمارية في المنطقة.
والسؤال: هل نجح الغرب، وتحديداً الأميركي، في ذلك؟
مرحلياً، ربما، إذ إن الحالة الإنسانية انحسرت مفاعيلها لمصلحة خطوات سياسية ميدانية فرضتها الولايات المتحدة على الأرض إمعاناً في محاصرة كل ما أفرزته كارثة الزلزال من حالة تضامن عالمي مع المنكوبين، ومن هذه الخطوات زيارة رئيس هيئة الأركان الأميركية مارك ميلي إلى قاعدة أميركية غير شرعية في شمال شرق سورية، وما تبع ذلك من انشغال بالزيارة وأهدافها وأبعادها، وهي التي جاءت متزامنة مع جولة لوزير الدفاع الأميركي لويد أوستن في المنطقة التي بدأها من الجوار العراقي.. والمفارقة أن جولة كل من ميلي وأوستن تضمنت الدول نفسها.. وقبلهما جال في المنطقة جيك سوليفان مستشار الأمن القومي الأميركي.
الأمريكي غير مطمئن كلياً.. كارثة الزلزال أجبرته على إعادة حساباته وإن بصورة غير معلنة وبما لا ينعكس انفتاحاً أوروبياً على الدولة السورية
مع ذلك لا يبدو الأمريكي مطمئناً، ولأول مرة، ربما، يشعر بأنه بات غير متمكن من أوراقه على الأرض السورية، الزلزال رغماً عنه حقق خرقاً في جدار «العزلة» ما زال يحاول احتواء توسعه وامتداده.. حتى مع تلك النظرية التي تقول إنّ الأمريكي ليس ببعيد عن ذلك الخرق، وعن كل ما شهدته الساحة السورية من اندفاعات عربية باتجاهها، حتى مع هذه النظرية إذا ما اعتبرناها صحيحة، لا يبدو الأمريكي مطمئناً.. ماذا لو كان مضطراً لأن يعطي بنفسه ضوءاً أخضر «لكسر العزلة» ضمن ضوابط وقواعد.. وماذا لو أنه في مرحلة ما – على المدى المنظور- خرجت تلك القواعد والضوابط عن سيطرته.. ماذا عن روسيا اللصيقة بكل خطوة أمريكية، والتي تعمل في الاتجاه نفسه منذ سنوات على مستوى العلاقات السورية- العربية، والسورية – الإقليمية.. ماذا عن كل التطورات العالمية التي تدفع بروسيا نحو المقدمة في سورية والمنطقة العربية .. ماذا عن الاستغناء عن أميركا مادامت روسيا – المقبولة من جميع الأطراف تقريباً– يمكنها إنجاز المهمة نفسها من دون ضغوط أو تهديدات أو عقوبات؟
بالمحصلة نعود إلى ما ذكرناه بداية، أن الغرب؛ الأمريكي والأوروبي، فوَّت الفرصة برهانه على اتجاهات خاطئة في التعامل مع سورية، الدولة والشعب، رهان لن يطول الوقت حتى نرى تداعياته المعاكسة على الأرض، وهذا ما بدأ الأميركي يحسب حسابه في مخططاته المقبلة من دون أن يكون واثقاً أو مطمئناً للنتائج.
اقرأ أيضاً: