الوجه الحقيقي للإنسانية الرأسمالية

تشرين- د. عماد خالد الحطبة:

لم تكن الهزة الأرضية، التي ضربت سورية وتركيا، زلزالاً بالمعنى الجيولوجي فحسب، بل كانت زلزالاً أطاح بالقناع الإنساني الذي ارتدته الحضارة الغربية الرأسمالية بدولها ومنظماتها الحكومية وغير الحكومية على مدى العقود الأربعة الماضية، ولم يعد أحد يصدق الخطاب الإنساني الذي تطرحه الدول الغربية وخاصة الأوروبية، فهذا ليس الاختبار الأول لها، فقد سبق أن سمعنا وشاهدنا خطابها العنصري في التعامل مع اللاجئين الأوكرانيين، واليوم نشهد التعامل نفسه مع العرب السوريين وحتى مع الأتراك.

يتهمنا بعض كتبة «ناتو» بأننا نستغل الكارثة الإنسانية لرفع الحصار عن «النظام»، لكن هؤلاء يغفلون حقيقة ما حدث في تركيا، عضو حلف «ناتو» ورأس حربته في الحرب على سورية، والتي لم تصلها فرق الإنقاذ الأوروبية إلا بعد ثلاثة أيام من الزلزال، فمن المعروف لدى العاملين في مجال الإنقاذ أنه بعد مرور 72 ساعة على الكارثة فإن نسبة إنقاذ الأحياء تنخفض إلى 25%، وتكاد تصبح صفراً بعد مرور 100 ساعة، ليس ذلك فقط، بل إن دولة تتشدق بالحديث عن الحريات ليل نهار، وتركب المركب الأمريكي في كل حرب ظالمة يخوضها، مثل بريطانيا، لم تقدم لتركيا خلال الأيام العشرة الأولى بعد الزلزال سوى ستة ملايين دولار، في حين بلغ ما قدمته من مساعدات عسكرية لأوكرانيا 5.4 مليارات دولار.

لم يعد أحد يصدق الخطاب الإنساني الذي تطرحه الدول الغربية وخاصة الأوروبية فهذا ليس الاختبار الأول لها

حتى العصابات الإرهابية الحليفة لـ«ناتو»، نالها من مكارم الاتحاد الأوروبي 3.5 ملايين يورو، منحت «لحلفائنا على الأرض، ومنظمات الأمم المتحدة»، الحديث هنا عن محافظة إدلب، التي قدّر التقرير الأولي للبنك الدولي حجم الخسائر فيها بـ 1.9 مليار دولار، هذه العصابات نفسها حصلت على مئات ملايين الدولارات من الاتحاد الأوروبي لتنفيذ جرائمها في سورية والعراق.

وأظهرت ردة الفعل تلك تجاه حلفاء «ناتو» الوجه الحقيقي للإنسانية الرأسمالية، فهي إنسانية كاذبة حتى تجاه حلفائها، وهي تقيس الأمور بمقياس الربح والخسارة سياسياً واقتصادياً، لذلك لم تجد مصلحة لها في دعم هؤلاء الحلفاء، فتركتهم يقلعون شوكهم بأيديهم، ونستطيع القول باطمئنان إن تأخر فرق الإنقاذ الأوروبية كان من الأسباب الرئيسة بارتفاع عدد الضحايا في تركيا التي كانت مركز الزلزال.

إذا كان ذلك موقف الحضارة الرأسمالية من الحلفاء، فعلينا أن نتوقع رد الفعل تجاه الخصوم وفي مقدمتهم سورية، ردّ الفعل الأولي كان الصمت عن المعاناة الإنسانية، وإعادة الأسطوانة المشروخة عن رفض الدول الغربية دعم «النظام»، وتصاعدت ردة الفعل لتصل إلى درجة من الوقاحة ظهرت مع تصريحات لرسميين ومستشارين وخبراء في مراكز أبحاث مرتبطة بالأحزاب الحاكمة، تربط ما بين وصول المساعدات إلى الشعب السوري و«تنحّي» الرئيس بشار الأسد عن الحكم.

احتاج الأمر أربعة أيام ليخرج بيان من وزارة الخزانة الأميركية يعلق العقوبات على سورية لمدة 180 يوماً، أما الاتحاد الأوروبي فاحتاج  أسبوعين ليتخذ قراراً مشابهاً، واحتاجت دولة مثل سويسرا 28 يوماً لترفع «العقوبات المفروضة على سورية منذ عام 2012 لتسهيل وصول المساعدات الإنسانية»، كان ذلك اعترافاً من الدولة، التي تسكنها المنظمة الدولية لحقوق الإنسان التي تدأب على إصدار شهادات حسن السلوك للدول حول تعاملها مع قضايا حقوق الإنسان، وهي الدولة نفسها التي يسكنها الصليب الأحمر الدولي، ومنظمة الصحة العالمية المعنية بإغاثة الشعوب، جاء اعترافاً بأنها أقرت منذ عام 2012 عقوبات تعوق وصول المساعدات إلى المواطنين في سورية، هذه الإعاقة لم تكن بحاجة لهذا الاعتراف فقد عرفها مواطنو سورية في زمن وباء كورونا وجائحة الكوليرا، وهو نفس ما عاناه أطفال اليمن ودول أخرى «مارقة» على الهيمنة الرأسمالية.

درسان خرجنا بهما من مشهد الكارثة التي رافقت الزلزال: الأول، أن الحضارة الغربية الرأسمالية ليست سوى حضارة موت وهمجية، تدعم كل ما من شأنه تدمير الإنسان والطبيعة والحضارة، حضارة قدمت للحرب في أوكرانيا 150 مليار دولار في سنة واحدة، في الوقت الذي لم تتجاوز فيه ميزانية منظمة الصحة العالمية في أوج انتشار وباء كورونا 2020 مبلغ 5.6 مليارات دولار.

الدرس الثاني، أننا قادرون على الوقوف بوجه الصلف والوحشية الرأسمالية إذا ما توفرت الإرادة السياسية التي مثلها الطيارون العرب الذين هبطوا في مطار دمشق حاملين المساعدات وفرق الإنقاذ العربية، متحدّين الحصار الرأسمالي، والإرادة الشعبية التي مثلتها اللجان الشعبية التي انتشرت في معظم المدن العربية تحت شعار الإغاثة ورفع الحصار عن سورية.

لقد أرغمت الهبّة الشعبية والرسمية العربية لدعم سورية، دول العدوان على التراجع ولو جزئياً عن شروط الحصار، وإذا ما تمكنا من تنظيم جهودنا وربط الداخل السوري بمحيطه العربي من خلال المبادرات الشعبية والرسمية، فإننا سنكون على الدرب الصحيح لكسر الحصار عن سورية، عربياً في المقام الأول ثم دولياً.

كاتب من الأردن

اقرأ أيضاً:

الزلزال السوري.. والضمير الأوروبي النائم

 

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار