ملف «تشرين».. العلاقات السورية – العربية.. «فاصل» بين مرحلتين.. مسار العودة يتكثّف وفق قاعدة «حاجة وخيار استراتيجي»

تشرين- مها سلطان:

على مدار الساعة، تكاد سورية لاتخرج من دائرة التركيز.. فيما العين على السعودية، وخطوة مرتقبة منها ستكلل مسار الحراك العربي باتجاه دمشق، ووفق التسريبات تتمثل هذه الخطوة بزيارة لوزير خارجيتها فيصل بن فرحان، وبما سيرسم – فعلياً – خطاً فاصلاً بين مرحلتين (إذا ما تحققت الزيارة)، علماً أن هناك الكثير من المؤشرات والدلائل الإيجابية التي يمكن رصدها، فيما التسريبات آنفة الذكر شبه جازمة بأن الزيارة ستتحقق بين يوم وآخر.

كارثة الزلزال كانت مرآة أمام العالم العربي رأى فيها نتائج الحرب والحصار ونتائج صمته أمام هاتين الجريمتين ورأى فيها اللاجدوى من سياسات «إبعاد» سورية

الجميع أعاد ويعيد حساباته.. حتى أميركا فعلت وإن كان فعلها اكتفى بخطوة مالية محدودة الزمان والمكان «لناحية تحرير المساعدات الإنسانية من الحصار الاقتصادي الجائر الذي تفرضه على سورية وشعبها» إلّا أنه فعل يأتي في إطار إعادة الحسابات، وهو في الوقت نفسه ليس ببعيد عن مسار الحراك العربي- الإقليمي «والدولي على مستوى المنظمات الإغاثية والحملات الشعبية الإنسانية» والذي حاصر الولايات المتحدة بحصارها وأحرجها دولياً ودفعها لإعادة حساباتها واتخاذ تلك الخطوة.

مع ذلك فمن غير الجائز ربط كل ذلك بكارثة زلزال 6 شباط الماضي، هذا أولاً.. أما ثانياً فمن ناجز القول إنه لم يكن ممكناً بأي حال فصل الحالة الإنسانية عن الحالة السياسية، مادام الزلزال وقع في دولة تتعرض لحرب إرهابية منذ 12 عاماً، ولحصار اقتصادي جائر يتصاعد ويتسع عاماً بعد عام.. ومادامت  سورية مُبتلية باحتلالين، أميركي وتركي، هما نتيجة مباشرة لتلك الحرب الإرهابية.. ومادامت أبواب سورية كانت مفتوحة دائماً للجميع، ولكل مبادرة أو جهد في سبيل الوصول إلى حلول وتسويات، وفق مبادئ وقواعد تتمسك بها كل دولة لتحافظ على سيادتها واستقلالها وقرارها الوطني.

يُفترض بما سبق أن يكشف ويُسقط الخبث الكامن فيمن يقف وراء حملة أن هناك استغلالاً لكارثة الزلزال من الدولة السورية للحصول على مكاسب سياسية.. وتالياً يُعرّي الأهداف الحقيقية لهؤلاء والمتمثلة في إدامة التحريض ضد سورية لإدامة الحرب عليها، وإدامة عزلتها عربياً وإقليمياً، وبما يمنع عودتها إلى دورها ومكانتها، والأهم بما يمنع قدرتها على النهوض والبناء واستعادة أراضيها المحتلة، وبما يُبقي التفكك والتقسيم خطراً محدقاً بها بصورة دائمة.

في سورية لا تصح «ربّ كارثة نافعة» ولا «العودة العربية من بوابة الكارثة» لأنها ليست من شيم الدولة السورية ولا من أخلاقياتها.. و«العودة» قائمة أصلاً

ينسى القائمون على تلك الحملة الخبيثة، وينسى المُروِّجون والمُصدقون الآتي:

أولاً، ينسون أن مسألة الانفتاح السياسي على سورية أو ما بات يُسمى اصطلاحاً «العودة العربية إلى سورية»، بدأت قبل الزلزال، رسمياً منذ عام 2018 مع إعادة دولة الإمارات افتتاح سفارتها في دمشق.. وقبل ذلك بصورة غير مباشرة منذ عام 2016 عبر الكثير من التصريحات، وما كانت تشهده كواليس القمم والمؤتمرات.

ثانياً، ينسون أن سورية كان بإمكانها استغلال الكارثة ومن أوسع الأبواب باعتبار أنها وضعت الجميع من دون استثناء بحرج شديد، وحشرتهم في زاوية مسؤولياتهم الأخلاقية أمام سورية كدولة وشعب، ليس فقط فيما يخص كارثة الزلزال، بل فيما يخص كارثة الحرب نفسها، التي لولاها لما كان حجم الكارثة الأولى بذلك العمق والاتساع وهو ما شهده وشهد به العالم أجمع.. لولا الحرب لكانت الدولة السورية أقدر على التعامل مع الزلزال وتداعياته، وعلى نجدة المنكوبين منذ الساعات الأولى.. هنا لا يمكن أن تصح مقولة «رب كارثة نافعة» لأنها ليست من شيم الدولة السورية أو من أخلاقياتها.. كما لا تصح المقولة المتداولة ما بعد الزلزال حول «العودة إلى سورية من بوابة الكارثة» لأن هذه العودة قائمة أصلاً وما فعله الزلزال أنه سرّع بها، علماً أن هذا التسارع كان سيحدث، ومن دون زلزال، بحكم سياقات إقليمية ودولية كانت ستقود إليها حكماً.

ثالثاً، ينسون أنه يحق لسورية المثل «لكنها لا تفعل بالمطلق»، فلماذا حلال لهم وحرام عليها؟ مع ملاحظة أنه لا يمكن أن يستوي الجانبان، فهم يستغلون الكارثة للتحريض وبثّ الكراهية والعنف، والدولة السورية أرادت أن تكون كارثة الزلزال مرآة أمام العالم يرى فيها نتائج الحرب الإرهابية والحصار الأميركي، ونتائج صمته أمام هاتين الجريمتين بحق شعب كامل طوال 12 عاماً، وما سيترتب على ذلك من مضاعفة حجم الكارثة ومآسي السوريين إذا ما استمرت الحرب والحصار، وإذا ما استمرت «حالة العزلة» التي تفرضها الولايات المتحدة على سورية بقوة الحصار الاقتصادي الذي تفرض على الجميع الالتزام به.. كما تفرض عليهم عدم طرح أي حلّ أو تسوية أو تواصل خارج أجندتها ومصالحها وأطماعها في سورية.

رابعاً، ينسون أن العرب ومعهم الإقليم باتوا يدركون تماماً مخاطر أن يبقى الوضع رهناً بما تفرضه أميركا، فهو في نهاية المطاف سينعكس عليهم، ولا مفرّ من ذلك، هذا ما كانت تقوله الدولة السورية منذ البداية وتحذر منه. هذا الأمر غير متعلق بكارثة الزلزال، رغم ما يُقال  بأن الكارثة غيّرت الأولويات وخلطت الأوراق.. ربما في بعض الجوانب تصح هذه المسألة، لكن حقيقة الأمر هي أن الكارثة وسعت الرؤية فتسارع مسار الحراك العربي باتجاه دمشق الذي بدأ زخمه يتسارع منذ بداية هذا العام.

التسارع في وتيرة الزيارات العربية كان سيحدث ومن دون زلزال بحكم سياقات إقليمية ودولية كانت ستقود إليه حتماً

ولنذكر هنا- على مستوى الإقليم – أن مسار «تطبيع» العلاقات بين سورية وتركيا بدأ قبل الزلزال، ومن المتوقع أن يشهد في المرحلة المقبلة مزيداً من التطورات، بعد فترة الجمود التي أعقبت الزلزال، وضمن مسألة «اتساع الرؤية» نفسها.

“العودة” باتت حاجة ملحة، ليست متعلقة بالزلزال وما خلّفه من مآسٍ إنسانية واقتصادية، وضرورة العمل معاً لتجاوزها، بل هي متعلقة أيضاً بمسألة أن الحرب وإدامتها واستمرار وجود سورية خارج محيطها الإقليمي والعربي، وتغييب دورها ومكانتها، هي مسألة ليست في مصلحة أي دولة عربية.. وهذا أيضاً ما كانت تقوله سورية منذ البداية.

لنذكّر هنا بما قاله وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان في 19 كانون الثاني الماضي في جلسة حوارية على هامش مؤتمر ميونيخ للأمن، أي قبل الزلزال، عندما قال ابن فرحان: «لا جدوى من عزل سورية، هناك إجماع متزايد في العالم العربي على أن عزل سورية لا يجدي نفعاًـ العالم سيحتاج إلى التعامل مع دمشق في مرحلة ما»، وفي مقابلة مع وكالة «بلومبيرغ» الأميركية في اليوم التالي على هامش اجتماعات منتدى دافوس في سويسرا -الذي عقد منتصف كانون الثاني الماضي واستمر عدة أيام- أضاف ابن فرحان: «نعمل مع شركائنا لإيجاد طريقة للتعامل مع الحكومة السورية، وسيتطلب ذلك تحركات ملموسة نحو حلٍّ سياسي».

هذا كلام لا تنطلق أهميته فقط من وضوحه وعلانيته وتوصيفه ثم تحديد ما يجب فعله، بل تنطلق أهميته من مسألة أنه صادر عن السعودية تحديداً، وهي التي لها ما لها فيما يخص ملف سورية طوال الـ12 عاماً الماضية.. هناك الكثير من التسريبات والتقارير المتداولة إعلامياً التي تشير إلى أن السعودية هي في صلب التحركات العربية تجاه دمشق، وما نشهده حالياً من زخم لا بدّ أن يترجم إلى شيء ملموس قبل نهاية هذا العام.. ونحن نتحدث هنا على مستوى العلاقات السورية- السعودية.

خامساً، ينسون أن أميركا ما زالت تحرج الجميع- وعلى رأسهم العرب- بتصريحاتها المتواصلة حول أنها صاحبة القرار فيما يخص الانفتاح على سورية، وهي من يحدد المسموح والممنوع في العلاقة مع سورية، وهي من يأمر ويوجّه، كيف ومتى، والزمان والمكان، ومن يقوم بالتنفيذ.

العرب ومعهم الإقليم باتوا يدركون تماماً مخاطر أن يبقى الوضع في سورية رهناً بما تفرضه أميركا

أمس الأول الثلاثاء جددت أميركا شروطها على لسان المتحدث باسم خارجيتها نيد برايس الذي حثّ على ألّا يترافق تقديم المساعدات لمنكوبي زلزال سورية مع إعادة العلاقات معها، ودعا  إلى الحذو حذو أميركا «التي تقدم مساعدات عبر المنظمات الصديقة غير الحكومية من دون إعادة النظر أو رفع مستوى العلاقات مع دمشق».

لا شك في أن أميركا ليست ببعيدة عن مسار الانفتاح على دمشق، ولا شك بأنها تعمل على عرقلته، وإن لم تستطع فهي ستعمل على ضبطه، على الأقل، ثم استغلال ما يوفره هذا الضبط من وقت في سبيل العمل على مسارات معاكسة تعيد ذلك المسار إلى ساعته الأميركية، ولا يخفى أنها تمتلك العديد من أوراق الضغط تستخدم بعضها حالياً، وتخبئ بعضها إلى مرحلة مقبلة قد تشهد فقدانها السيطرة على مسار الانفتاح.

هنا يتم تداول بعض التحليلات، لكن على مستوى ضيق، بسبب أنها لا تكتسب المصداقية المطلوبة، فهي لا تستند إلى وقائع محددة أو مصادر معلومات أو تسريبات، التحليلات تقول: إن أميركا وبدلاً من «معاندة» مسار الانفتاح اختارت الاستثمار فيه.. وهناك تحليلات تقول: إن أميركا تخطط لمقاربة جديدة بخصوص سورية لقطع الطريق على روسيا من جهة، وعرقلة مسار التقارب السوري- التركي من جهة ثانية، ومن هنا تنطلق تحليلات من أن القاعدة الرئيسة في مسار الانفتاح ستكون عدم طرح شروط مسبقة، خصوصاً فيما يتعلق بالعلاقات السورية – الإيرانية. هذا يقود إلى أن هناك قناعة أميركية بوجوب ترك مسارات أثبتت عدم جدواها لمصلحة مسار آخر عنوانه الرئيس الانفتاح على دمشق.. ونعيد التذكير هنا أنها مجرد تحليلات غير مُسندة، مع إنه يمكن تصنيفها بالمهمة فهي منطقية وفقاً لتطورات عام مضى على هذا الصعيد.

أميركا ليست ببعيدة عن مسار الانفتاح على دمشق ولا يخفى أنها تمتلك أوراق ضغط لعرقلته تستخدم بعضها حالياً

الآن.. لنعكس الحالة.. لماذا لا تكون كارثة الزلزال جاءت لتوفر مخرجاً من المراوحة في المكان التي استقر فيها الحراك العربي خلال الفترة الماضية، فيما مسار التقارب السوري- التركي كان يتقدم.

قد لا يجوز وضع الكارثة هذا الموضع، لكنها كانت كذلك باعتراف الجميع، وكان متوقعاً لها أن تكون كذلك، لأنه كما قلنا- بداية- بسبب الحرب والحصار على سورية، كان لا بدّ أن تتقدم الحالة الإنسانية مع الحالة السياسية جنباً إلى جنب، وهذا بحكم الأمر الواقع الذي لا يُعيب ولا يُعاب به أحد.

أياً يكن من شأن ذلك السؤال ومسارات طرحه ما بين الخطوات الإنسانية والتوجهات السياسية، فإن الحراك العربي باتجاه دمشق قطع أهم أشواطه ما بعد زلزال 6 شباط الماضي وبما يعزز التفاؤل بأن لا عودة إلى الوراء.

في دمشق بدا كأن الزائرين العرب تمنّوا لو أنهم يستطيعون تجاوز 12 عاماً مضت بزيارة واحدة

بقي أن نشير إلى الحماس والاندفاع اللذين ظهرا على كل الزائرين العرب، سواء على مستوى المسؤولين أم على مستوى الوفود.. كشفا أن الزائرين تمنّوا لو أنهم يستطيعون تجاوز 12 عاماً مضت في زيارة واحدة.. في لقاء واحد مع السيد الرئيس بشار الأسد.. أكثر من ذلك إذا ما نظرنا إلى أجواء الزيارات، وأسقطنا منها 12 عاماً من الحرب والحصار، بدت الصورة ولا أبهى حيال كيفية ما يكون عليه التضامن والعمل العربي المشترك.

سورية احتفت بالزائرين، وآنسها ما لقيته من تضامن ومواساة من أشقائها العرب.. سورية لم ولن تغلق باباً في وجه شقيق عربي، تستقبل الجميع وتستمع إلى الجميع، هذا عهدها وستبقى عليه.

أقرأ أيضاً:

سورية.. السعودية.. الجامعة العربية

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار