رسالة إلى «طفلة لابسة كنزة خضرا»
تشرين- د. عماد خالد الحطبة:
على شاهد قبر في شمال غرب سورية كتب أحدهم «مجهولة الاسم، طفلة لابسة كنزة خضرا»، لا أدري كيف طاوعه قلبه، لماذا لم يسأل أحداً عنها، لماذا لم يسألني فأنا أعرفها جيداً، وأستطيع رواية قصة عن كل لحظة من لحظات حياتها القصيرة.
ذات يوم حملت حبات القمح في يدها ووقفت على تلة ترابية وبدأت تنثرها فاجتمع الدجاج حولها، لتلقي خطبة عصماء تحث فيها الدجاجات على البقاء قريبة من المنزل حتى لا يقتنصها الثعلب المكار، يومها قال والدها إنها ستصبح محامية، أما أمها فطلبت من الله أن يمد في عمرها لترى تلك اللحظة.
بعد وصول الإرهاب إلى بلدتهم أخذ معه الأب، وظلت الأم تجيب كلما سألها أحدهم عنه «راح عجهنم»، في الليالي الباردة وهم يتنقلون من قرية إلى قرية بحثاً عن لقيمات تسد الرمق، أو هرباً من «أمير جماعة» رأى في المرأة الوحيدة فرصة سانحة، كانت تتمنى لو تذهب إلى جهنم، حيث يمكن أن تطرد النار هذا البرد الذي يتخلل عظامها.
صباح يوم في أواخر الصيف كانت تركض في حقل قريب من خيمة منحتهم إياها إحدى العائلات مقابل عمل الأم في المنزل والحقل.. يومها اندفعت باتجاهها عدة كاميرات تصور ضحكتها وتتحدث عن سعادتها بالحرمان من كل شيء، مقابل شيء لا يؤكل ولا يلبس ولا يمنح الدفء، اسمه الحرية، منحوها كنزة خضراء، لم تحبها في البداية، لكنها تعلقت بها عندما بدأ الشتاء، ومنحتها تلك الكنزة الدفء، يومها خرج عقلها الصغير بفكرة غريبة، حريتهم هي جهنم.
لو سأل رجلاً آخر لأخبره قصة أخرى عنها، لا تشبه القصة التي أرويها له نهائياً، لكنها القصة نفسها، تلك الفتاة كانت ببساطة تعيش مع أهلها في قريتهم بسعادة، ذهبت لزيارة عمة لهم في قرية مجاورة، وكانت لديها «كنزة خضرا» تحبها كثيراً، ذات يوم كانت تلعب بعيداً عن المنزل عندما دهم مسلحون القرية، هرب أقاربها أما هي فأصابتها رصاصة وقتلتها.. لم يتعرف إليها أحد لأن جميع أهل القرية هربوا، قصة تكررت مئات المرات في سورية، ولا شيء خاصاً بهذه الفتاة دون غيرها.
اسأل شخصاً ثالثاً وسوف يخبرك أنها طفلة فقدت والديها في الحرب ولا أحد يعرف اسمها أو من أين أتت، كذلك الرابع والخامس، كل سوري يعرف قصة الطفلة و«كنزتها الخضرا»، أينما نظرت ستراها تخرج من الأرض مثل شقائق النعمان، أو تنزل من السماء مثل ولادة الشمس في صباح ربيعي، هي مثل كل أطفالنا الذين نراهم يلعبون ولا نحتمل أن يصاب أحدهم بخدش.
أنا خجل منك يابنتي، خجل أمام عروبتي، ووطنيتي وإنسانيتي، خجل من أكوام الكلام التي عبأت بها صفحات الجرائد وصراخي في المؤتمرات، لكنني لم أمد لك يداً تحميك، بيتاً يأويك، أو اسماً يكتب على شاهد قبرك.
أنا آسف يابنتي، لقد اعتنيت بأبنائي جيداً.. ونسيتك، عندما مرضوا أخذتهم إلى المستشفى، وأنت لا تجدين مكاناً يعالج أوجاعك، وعندما اشتكوا ذهبت بهم إلى أحد الملاعب، وأنت ينتهك العمل والفقر طفولتك.
أنا آسف يا بنيتي، كيف أمحو من ذاكرتي نظرات الذعر في عينيك وهذا العالم ينهار فوقك، ومنظر دموعك وأنت تمدين يدك في الهواء فلا تجدين يداً تمسكها، كيف أسامح نفسي أنني لم أكن هناك أضم جثمانك قبل أن يهاجمه البرد، وأمنحك اسماً يُكتب على شاهد قبرك، هل قابلت ملك الموت بخوف أم كنت سعيدة لأنه سيأخذك إلى حيث لا ألم ولا تعب ولا فقر.. إلى مكان لا نوجد نحن فيه.
في حلب بعد الزلزال كنت في ساحة القلعة، بإمكانك رؤية الصراع بين الحياة والموت، بيوت مهدمة تحيط بك، وفي الوقت نفسه مجموعة من المقاهي تصدح بالأغاني.. بين الصورتين شاهدتها كانت طفلة تحمل ثلاث وردات ذابلة، اشتريت منها ورداتها، وهممت بالرحيل فبادرتني قائلة: «وردة إلك، ووردة لحبيبتك، خليلي الوردة التالتة عشان أبيعها بكره»، سألتها عن اسمها قالت: أمية.
اذهبوا إلى ساحة قلعة حلب، ابحثوا عن أمية، اشتروا منها وردتين واتركوا الثالثة، وتصوروا معها، وانشروا الصورة في كل فضاء، حتى إذا اهتزت الأرض أو ارتجت السماء يكون لها اسم يكتب على شاهدة قبر: «أمية، ذات الوردات الثلاث”.
كاتب من الأردن