«إنسانية» في خدمة الاستعمار
تشرين- أ. كريمة الروبي:
اعتاد الاستعمار على استخدام الحجج واستغلال القضايا الإنسانية لتبرير احتلاله، فالحملات الصليبية بررت وجودها بحماية الأقليات المسيحية في الشرق من اضطهاد المسلمين، وأن الاحتلال الإنكليزي لمصر جاء لحماية الأقليات والأجانب، والغزو الأمريكي للعراق كان هدفه «نشر الديمقراطية» وحماية العالم من السلاح النووي المزعوم، حتى إن كلمة «استعمار» في حد ذاتها كلمة خادعة فقد أرادوا بها الإيحاء بأنهم جاؤوا للتعمير وليس للنهب والاحتلال.
وقد طوّر الاستعمار من أدواته، وباتت منظمات المجتمع المدني – التي ترفع شعارات إنسانية وحقوقية – هي حصان طروادة ينفُذون منه للبلدان وينفّذون به مخططاتهم من دون الحاجة إلى تكلفة الاحتلال المباشر، «طبعاً هذا لا ينسحب على كل المنظمات وإن كان أهمها وأشهرها وأكثرها تأثيراً تضع نفسها في خدمة الغرب الاستعماري».
العجيب في الأمر أن مصادر تمويل تلك المنظمات لم يعد يثير أي تحفظات، فمصادر التمويل تعكس التوجهات والأهداف التي أنشئت من أجلها المنظمة، ولا يخفى على أحد الأطماع الاستعمارية للغرب في وطننا العربي، وكيف عمل على تفكيكه وإثارة الحروب والصراعات بين أبنائه حتى تتسنى له السيطرة على مقدراته، ومع ذلك لا تواجه هذه المنظمات أي أزمة في الإعلان عن مصادر تمويلها أو جنسية مؤسسيها.
منظمة «الخوذ البيضاء» الإرهابية على سبيل المثال هي منظمة تطلق على نفسها زوراً «الدفاع المدني السوري»، وتنشط في المناطق التي تسيطر عليها من تسمي نفسها «المعارضة السورية» وتقدم نفسها على أنها منظمة إغاثية تنتشل الضحايا من تحت الأنقاض وتقدم لهم الإسعافات اللازمة، تلك المنظمة أنشأها ضابط استخبارات بريطاني هو جيمس لومزريه عام 2013 وتمولها الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية USAID والحكومات البريطانية والتركية والقطرية التي تحالفت جميعها لنشر الفوضى والاقتتال في سورية، وهي كلها أمور مُعلنة، حتى إن الخارجية الأمريكية على لسان المتحدثين باسمها- وفي أكثر من مناسبة – أعلنت أنها زودت «الخوذ البيضاء» بمبلغ 33 مليون دولار على أقل تقدير، وبعد أن بسط الجيش العربي السوري سيطرته على معظم الأراضي التي كانت تحت سيطرة المسلحين، توارت «الخوذ البيضاء» واضطرت أمريكا لإجلاء 800 من أفرادها عام 2018 لنقلهم إلى أوروبا عن طريق الأردن وبمساعدة الكيان الصهيوني في عملية أطلق عليها «السجادة السحرية» التي انتحر بسببها مؤسس المنظمة لومزريه بعد افتضاح أمر اختلاسه مبلغ 50 ألف دولار.
كما أن هناك فيديو مسجلاً لبنيامين نتنياهو وهو يتحدث عن العملية وأنها جاءت بطلب من الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، وراح نتنياهو يكيل المديح للمنظمة وأهدافها الإنسانية في إنقاذ حياة السوريين، وهناك العديد من الفيديوهات التي تظهر أعضاء المنظمة منخرطين وسط المنظمات الإرهابية خاصة «جبهة النصرة» ويلوحون بأعلامها، وقد قامت بفبركة العديد من الفيديوهات لاتهام الجيش السوري بارتكاب جرائم حرب تستوجب التدخل الخارجي، مثل الاتهامات التي طالت الجيش باستخدام الكيميائي في خان شيخون، وكان مصدرها صور وفيديوهات من «الخوذ البيضاء» التي قامت بعمل تمثيلي رائع ويدرّس في كيفية صناعة حدث من الخيال.
لم يتوقف عمل «الخوذ البيضاء» بعد إجلاء العديد من أفرادها، بل ظلت كامنة حتى حانت لحظة ظهورها، فتلك المنظمات متمرسة في قنص الفرص، فما إن حدثت كارثة الزلزال المدمر في سورية فجر السادس من شباط الجاري حتى عادت للظهور مرة أخرى عبر الفضائيات وأجهزة الإعلام المعادية للدولة السورية، فلا نكاد نرى على الشاشات سوى صور أفراد «الخوذ البيضاء» وهم يقومون بعمليات إنقاذ لضحايا الزلزال وكلها صور وفيديوهات تمت بكفاءة وجودة عالية لا يمكن أن يصنعها سوى متخصصين في الدعاية، كأن الضحايا لا يجدون سوى «الخوذ البيضاء» لينقذوهم، في حين يعمل الدفاع المدني السوري الحقيقي ومنظمات المجتمع الأهلي السورية بإمكانيات بسيطة بسبب الحصار من دون الالتفات إلى التقاط الصور وبث الفيديوهات التي توثّق عملهم، فكل همّهم هو إنقاذ الضحايا بأقل الإمكانيات المتاحة.
إذاً، شكلت كارثة الزلزال فرصة لـ«الخوذ البيضاء» للعودة إلى الظهور لاستجلاب التمويل وتحقيق الأهداف التي أنشئت من أجلها، فقد ذكرت الصحفية البريطانية فانيسا بيلي أن ميزانية «الخوذ البيضاء» السنوية تبلغ 35 مليون دولار لأقل من 3000 فرد فقط.
قد تكون الخوذ البيضاء هي المنظمة الأشهر، لكنها لم تكن الوحيدة التي تعمل في سورية، فالتنوع مطلوب بالتأكيد ؟!. هناك منظمة اسمها يكفي للدلالة على توجهاتها دون تكلف عناء البحث عن مصادر تمويلها، وهي (الجمعية الطبية السورية – الأمريكية SAMS) والتي كان أول مدير تنفيذي لها هو ديفيد ليلي والذي عمل في مكتب المساعدات الخارجية للكوارث التابع للوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID) لمدة ثمان سوات مع التركيز على أفريقيا والعراق وأفغانستان، وتقوم تلك الجمعية أيضاً – مثل الخوذ البيضاء – بتقديم تقارير وأخبار عن قصف مستشفيات واستهداف مدنيين وجمع معلومات وعينات لتقديمها للجنة تقصي الحقائق التابعة لمنظمة حظر انتشار الأسلحة الكيميائية.
إحدى أعضاء الجمعية (ماريا سو بيل) مجندة سابقة بالجيش الأمريكي وقد تم اعتقالها مؤخراً لاتهامها بتقديم التمويل والمشورة التكتيكية لأحد التنظيمات الإرهابية التابعة للقاعدة في سوريا وهي جبهة النصرة.
المنظمات التي تدعي العمل لأهداف «إنسانية وإغاثية» مستهدفة استقرار سورية، كثيرة، حيث تنشط في المناطق التي تسيطر عليها «المعارضة السورية» عدد كبير منها مثل: (منظمة ميدغلوبال MedGlobal – منظمة الأمين للمساندة الإنسانية Al-Ameen – وحدة تنسيق الدعم ACU – منظمة عطاء الإنسانية ATAA – الجمعية الطبية السورية الأميركية SAMS – المؤسسة الدولية للتنمية الاجتماعية و دعم الإنسان SDI – الرابطة الطبية للمغتربين السوريين SEMA International – منظمة أوسوم فرنسا UOSSM France – منظمة بنفسج VIOLET – منظمة أطباء عبر القارات PAC – مؤسسة شام Al Sham – منظمة يداً بيد للإغاثة والتنمية HIHFAD – منظمة خبراء الإغاثة UDER – منظمة مستقبل سورية الزاهر SBF – منظمة الأطباء المستقلين IDA – إتحاد منظمات الرعاية والإغاثة الطبية UOSSM International – منظمة بهار BAHAR – منظمة إحياء الأمل HRO).
منظمة «الخوذ البيضاء» الإرهابية ومثيلاتها، لا تخفي أدوارها في خدمة الأهداف التفكيكية للدولة السورية خدمة لمموليها ومؤسسيها، مع ذلك ليست هذه هي المشكلة الأكبر، بل المشكلة في رد فعل تلك الفئة من الناس الذين يتهمونك «بالاصطياد في الماء العكر» عندما تقدم لهم معلومات ووثائق حول تلك الأدوار المشبوهة، ومنهم من يتذرع بأن الوقت الآن ليس وقت خلافات مع أحد، بل وقت إنقاذ الضحايا، وهذا منطق عجيب حقاً أن يُطلب منا غضّ الطرف عن ممارسات تلك المنظمات لأن الوقت غير مناسب، وأن ننسى ونتجاهل أنها شريك أساسي في المأساة، وأنها تستغل كارثة الزلزال لتحقيق أهداف مشغليها في تدمير الأوطان والإنسان. كل محاولة لإعطاء هذه المنظمات الإرهابية فرصة للعودة، ليست خيانة فقط للدم السوري الذي يُراق منذ 12 عاماً ولكنها ارتكاب للخطأ نفسه الذي سيمنح تلك المنظمات الإرهابية فرصة لإراقة المزيد من دماء السوريين وتفكيك وطنهم، فحذار من الترويج لها مهما كان الأمر ومهما تلطّت خلف الواجهات الإنسانية.. والإنسانية منها براء.
كاتبة من مصر