الانتصار الاجتماعي
تشرين- د. عماد خالد الحطبة:
الثورة كما يعرفها المفكرون، هي تغيير جذري في البنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. هذا التغيير يمكن أن يكون تقدمياً إذا نقلت الثورة إلى أنماط اجتماعية واقتصادية أكثر تقدماً، ويمكن للثورة أن تكون رجعية إذا شكلت ردة نحو القديم البائد، وهو ما نسميه الثورة المضادة. عبر التاريخ نجحت الثورات المضادة أكثر بكثير من نجاح الثورات التقدمية. إضافة إلى مقاومة النظام القديم، فإن الثورات التقدمية عجزت في أحيان كثيرة عن التغلغل في البنية الاجتماعية وإحداث التغيير المطلوب فيها، بل إنها في الكثير من الأحيان عقدت صفقة غير مكتوبة مع البنى الاجتماعية القائمة، بالمحافظة عليها مقابل عدم الانجرار إلى مواجهة معها.
لذلك نستطيع القول اليوم إن الثورة لا يمكن أن تعدّ تقدمية إلّا إذا حملت مضموناً اجتماعياً تقدمياً.
يبقى القول سهلاً إذا ما قارناه بإمكانية تحويله إلى فعل وممارسة ثورية. إضافة إلى مقاومة البنى الاجتماعية القائمة، فإن الفكر الثوري الجذري الملتزم يصطدم بالأفكار والمخططات الليبرالية التي تطرح شعارات وبرامج تقدمية في مظهرها، لكنها في جوهرها تكرس الرؤية الرأسمالية للإنسان. لم تكتفِ الرأسمالية بتسليع الإنسان، لكنها تجاوزت ذلك لتسليع الأفكار والمبادئ. فالحرية والديمقراطية وحقوق المرأة والطفل وغيرها من المبادئ تحولت على يد الرأسمالية إلى سلع تبيعها للدول والشعوب مقابل استقلالها وهويتها الوطنية.
تعدّ منظمات الأنجزة NGOs الأداة التي تستعملها الرأسمالية لفرض أجنداتها على الشعوب. فجيوش هذه المنظمات تخترق المجتمعات بشعاراتها البراقة، وإمكاناتها المادية غير المحدودة، وتعمل على الحلول محل الدولة في طرح البرامج الاجتماعية، ثم تلجأ إلى تقسيم المجتمعات بحسب أجنداتها، وتجنيد أفراد من جميع المستويات الاجتماعية والطبقات الاقتصادية لتفرض هذه الأجندات على الدولة المعنية، وبعكس ذلك توسم الدولة بمعاداة الحرية والديمقراطية والتمييز ضد النساء والأقليات، ويكون ذلك مدخلاً لفرض العقوبات عليها، أو شن حرب تدميرية بهدف تغيير الوضع القائم.
أمام هذا التغول الليبرالي، لا نستطيع التراجع عن التقدمية الاجتماعية، ونخشى السقوط في مستنقع العمالة. الضامن الوحيد لخطا المجتمعات هو الدولة الوطنية، لذلك لا بدّ أن تقوم الدولة بدورها الاجتماعي من خلال سن قوانين اجتماعية ذات مضمون تقدمي، لكنها تقدمية وطنية تراعي خصوصية المجتمع ومصلحة الوطن في آن واحد.
في هذا السياق جاء المرسوم 2 لعام 2023 والمتعلق بالأطفال مجهولي النسب. فالمتأمل لنصوص القانون يجد أنه لم يأتِ ليضع الإطار القانوني لمشكلة موجودة قد تكون تفاقمت بعد الحرب الظالمة على سورية، بل ذهب إلى التفاصيل التي تمنحه طابعه التقدمي.
فقد نص على «ضمان تمتع الطفل مجهول النسب بجميع الحقوق والحريات من دون التمييز عن أقرانه» ومنع في المادة 24 «بيوت لحن الحياة» أو السجل المدني أو أيّ جهة أخرى، وتحت طائلة المساءلة القانونية، الإشارة أو الدلالة على أن الشخص «مجهول نسب» في أيّ من الوثائق الرسمية المُتعلّقة به، ويتم التسجيل في “سجل الواقعات بشكلٍ سرّي”.
لقد عمد القانون إلى تثبيت الحقوق الأساسية للطفل بما في ذلك حقه بالتمتع بحياة اجتماعية طبيعية بعيداً عن الوسم الاجتماعي المرتبط بمجهولي النسب. هذا إضافة بالطبع إلى حقه بالاسم، وشهادة ميلاد وتسجيل في الأحوال المدنية حسب الأصول وعدّه عربياً سورياً يتمتع بكافة حقوق المواطنة. يحدد القانون مسؤولية الدولة برعاية الطفل وتعليمه وتنص مادته الخامسة على ضمان تعليم الطفل وغرس القيم النبيلة، وتعزيز القيم والمبادئ الوطنية وترسيخ المبادئ والأخلاق السامية، وتأمين تعليمه في جميع مراحل التأمين.
لقد جاء هذا القانون ليسحب البساط من تحت أقدام منظمات مشبوهة تحاول استغلال الوضع الإنساني الذي نجم عن الحرب على سورية، وتحاول تنظيم هؤلاء الأطفال في منظماتها الإرهابية أو تلك المرتبطة مباشرة بالدول المعادية لسورية. لقد شاهدنا الأطفال يتم استغلالهم وإلحاقهم بمعسكرات التدريب، وتحويلهم –بعكس طبيعتهم البريئة– إلى مقاتلين. كل ذلك حدث بتمويل وتدريب ومباركة من دول رأسمالية ومنظمات دولية تدعي حرصها على الطفولة والأطفال.
تمضي سورية نحو النصر، وهذا النصر يحتاج إلى تثوير البنى الاجتماعية والاقتصادية لتكون إعادة البناء ذات طابع تقدمي وطني. كما كانت القائد في التصدي للمخططات الاستعمارية في المنطقة فإن سورية مطالبة اليوم بقيادة العالم العربي على طريق التعافي من آثار الربيع الصهيوني، وما تركته من ندوب في بنيتنا الاجتماعية.
إن هذا المرسوم وأمثاله خطوة بالاتجاه الصحيح، لاستعادة مبادئ التسامح وقبول الآخر التي تميزت بها مجتمعاتنا قبل حضور العدو الرأسمالي والعصابات التكفيرية المرتبطة به. ما زالت الطريق أمامنا طويلة لكن هذا المرسوم يشكل خطوة مهمة على هذا الطريق، ومن واجب المثقفين دعم هذا التوجه التقدمي لدى الدولة السورية وغيرها من الدول العربية، لكي نحقق نقلة اجتماعية تبعد عن مجتمعاتنا أشباح الحروب، وتضعنا على طريق بناء مجتمعات وطنية تقدمية مستقلة.
كاتب من الأردن