في الأمن السيبراني.. والسّؤال الملحّ/ المؤجّل
تشرين-إدريس هاني:
بدعوة من مجلس الأمن القومي الليبي، أقيم المؤتمر الدولي الأوّل للأمن السيبراني، في بنغازي، بحضور أطر وضباط من الجيش الوطني وخبراء من البلاد العربية، وبرعاية من مستشار مجلس الأمن القومي إبراهيم بوشناف.
نصيبي من المشاركة، مداخلة في اليوم الأوّل، ورئاسة جلسة في اليوم الثاني، وتعليق على بعض المداخلات، وتماماً كما العادة، كان همّي مقاربة الأمن السيبراني من منظور فلسفي وضمن قواعد التفكير العبر- مناهجي.
بالتأكيد هذا النصيب من المداخلات في إطار زمني محدد فيزيائياً لا يتيح احتواء المعضلة الإنسانية الكبرى في سياق انقلاب الإنسان الصانع على نفسه، لكن الفلسفة قد تخرجنا بالفعل من لعبة التوصيف والأرقام، وتضعنا أمام جوهر المعضلة، فإلى أي حدّ يمكننا الحديث عن أمن أنطولوجي، مادامت التقنية فرضت هذا القدر من الاستلاب على كائن تجاوزته تقنيته؟
قد يرى البعض أنّ هذا التقريب الفلسفي يُمثل وجهة نظر مفيدة فقط لقيام مقاربات من زوايا أخرى عملية، والحقيقة هي أنّنا ما دمنا نفكّر وفق هذا التصنيف والاختصاص، سنظل في دوامة وجودية لا فكاك منها، فالفلسفة التي أقارب بها موضوعي لا تتيح مجالاً للعبور إلى منظور آخر، العبر- مناهجية لها غاية وحيدة، هي شمولية الرؤية، وتداخل زوايا النظر وحقول المعرفة، والأخذ بالحسبان الواقع- الواقعي، من حيث هو شبكة لا نهائية من التركيب، ثم الأهم والأهم هو اللاّقياسية.
يلتقي العبر- مناهجيون في هذه المقومات الأساسية، وحدها التي تتيح العبور نحو الموقف الأنطولوجي، وتحويل حقول المعرفة ومناهجيها إلى أدوات لتحقيق تلك القفزة العبر- مناهجية، قبل إدغار موران، زمجر نيتشه في إحدى شذراته، مُتَّهماً العهد الما بعد- سقراطي بالتبسيط ومبارحة التعقيد.
كان الحديث مسهباً في قضايا عديدة، لكن ما لفت انتباهي في المعضلة السيبرانية، هو أنّه لو تحققت فكرة الاستيعابية التي قوامها لحظة التواسط واستقرار البندول بين أقصى وآخر بعد استيعاب المجال الترددي لخبرة الذهن البشري الذي خضع لخضات تأرجحية، فإنّنا سنتصالح مع اللوغوس والميتوس، مع الواقع الذي يتعذر احتواؤه إلاّ بالحدس، إذ لا نهائية الواقع تتجاوز سلطة المقولة واختزالية الاستدلال، ولاسيما الاستدلال المستند إلى واقع غير واقعي، واقع تنتجه الرغبة وفقر الخيال.
هذا الكائن العاري الذي مكنه بروميثيوس من النار، من التيخني، حسب الأسطورة الإغريقية، لكن ظل شيئاً ما ينقصه، هو سرّ تنظيم المدينة، الاجتماع السياسي، لعنة العقد الاجتماعي. فما أن استولى البشر على التقنية حتى أبادوا بعضهم بعضاً، ما اقتضى تعاطفاً من زيوس، في الدلالة التي تحبل بها تراجيديا بروميثيوس كما في محاورة بروتاغوراس لأفلاطون، حيث سيُمنحون أمرين لعودة الاستقرار: الحياء والعدل. فهل حقاً انتهت معضلة الاجتماع السياسي؟
غير أنّ الغواية ستجعل الكائن وبالتقنية نفسها يلتفّ على ذينك القيمتين، فيغشاهما التباس حدّ المغالطة، ثم نشأة حروب التأويل للقيمتين معاً.
المشكلة ليست في التقنية، بل في مُدبّرها. فالكائن سيظل تناقضي البنية، ففي نهاية المطاف كلنا في هذا العصر التقنوي نستقوي على بعضنا ونتنافر، فالعلم سيبراني والجهل سيبراني، كما أنّ الأخيار سيبرانيون والأشرار كذلك. ما العمل إذاً حيث الحل التقني للتقنية لم يعد حلاّ عملياً؟.
طبعاً، لا خوف على الإنسان مما يبدو لنا مهولاً، لأنّ دورة الرحلة من الأقصى إلى الأقصى لها استحقاقات وتبعات، لكنها شرط لكمال الرؤية وتحقق الرشد البشري. فما يبدو لنا عصراً سيبرانياً هو كذلك، لكن دعنا نتحدث مسبقاً عن أننا نعيش العصر الكلاسيكي السيبراني، حيث القفزات التقنوية تستعجل الأجيال التي لم تعد تستغرق قروناً، بل بين جيل وآخر، هناك مسافة زمنية قريبة. فالزمن السيبراني هو زمن نسبي، وهو أيضاً زمن كوانتيكي.
أعود لأؤكد بأنّ الأمن السيبراني بالفعل كما لمّح مرة أتين كلين بأنه يتهدد العقد الاجتماعي. وهذا واضح إذا اعتبرنا أنّ المجتمع برسم السيبرانية، هو مجتمع الجماعات المغلقة، القبائل السيبرانية، الولع والهلع والتعطش والإدمان لاستهلاك المعلومة وإنتاجها، فائض الرغبة والابتهاج، صبيب من المعلومات بمحتوى غير متجانس، كائن إن لم يزود بوعي اللحظة التاريخية وموقعه من تاريخ التقنية وتاريخ الوعي والاستيعاب، فسيكون ضحية استيلاب تقني.
سأتناول بعدها التحولات التي يعرفها مفهوم القوة، تحولات في مفهوم الحرب الكلاسيكية، انقلاب على قاعدة كلاوزفتز، فالحرب ليست اليوم امتداداً للسياسة، ثم تأتي مرحلة السلم، بل هناك الحرب السيبرانية الدائمة، وباتت السياسة والحرب أمرين متداخلين. ففي كل آن من الآنات، هناك هجمات وغزو، الكائن السيبراني كائن محارب، على جهوزية فائقة.
تفرض اللاقياسية واقعاً متشابهاً لا شيء فيه يشبه شيئاً إلّا في إطار من التنسيب يقوم على مفهوم التشابه الوظيفي.
إنسان العالم السيبراني هو كائن يفكر بطريقة مختلفة، هو حرك، احتمالي، لا قياسي، فإذا ما ظلّ التفكير كلاسيكياً في خضم عالم سيبراني له شروطه المختلفة، فتلك هي المعضلة.
في البعد التطبيقي، ربما ما كان الخوارزمي ليتصور أنّ اسمه سيخلد في تاريخ آخر الانقلابات في العصر الحديث، لكن وجب القول إنّ الخوارزميات السيبرانية، بما أنّها تحمل تصميم التفكير البشري الكلاسيكي نفسه، حيث نزعتها القياسية تكاد تجعل من الواقع مجالاً للتكرار. لا غنى عن الحدس البشري، أمّا الخوارزميات فهي قاصرة، وغير دقيقة مهما تطورت، ويمكن أن يصبح الاعتماد عليها خطراً، بل في بعض الأحيان، يبدو المجال السيبراني بكل ما يحيط به من مكر، وجريمة، ومنافع، هو شكل من الداروينية الافتراضية، حيث تدبير العيش يتم بالافتراس والقوة.
ومع ذلك لا مجال للعودة إلى الخلف، فقطار التقنية يمضي بسرعة هائلة، وما يهمني في كلّ هذا النقاش، هو تدبير الانقلاب الجديد في الذهن البشري، لاحتواء هذا التحول الكمي والنوعي، لكن الأمن السيبراني إن أخذ مفهوم الدفاع عن الطرق التقليدية للذهن البشري، فلن يؤدي إلى نتيجة خلاّقة، بل المطلوب اليوم وفي العصر السيبراني أنّ نتحدّث عن الاستيعابية، وعن تحرير الذهن البشري من الحنين إلى الميكانيكا، فهذا عصر يُعاش بحدس ولا قياسية. إنّ الأمن السيبراني يفرض مستويين: أحدها الإجراءات التقنية لتجنب الخطر التقني نفسه، التقنية في مواجهة التقنية، والثاني يتعلق بالأمن الأنطولوجي لتحرير البشرية من أنماط التفكير القياسي، استيعاب القدر التقني، الخروج من هدأة اللحظة الكلاسيكية إلى عصر خرق كل قواعد الاشتباك، وجب دخول هذا العالم برباطة جأش الطفولة، كائن ينصت لهسيس التحولات الكبرى، يكتشف ما جنته يداه، كائن يصنع ويُستلب في صنائعه، نحو عالم محكوم بالنسبية، وأزيز الحركة الجوهرية يملأ الفضاء.
لا أمن سيبرانياً من دون تغيير نمط التفكير. إنّني ألاحظ أنّ المجال الكوانتيكي فيزيائياً تراجع فيه القياس، لكن الفضاء السيبراني، على خلاف المظنون منه، هو فضاء لأكثر أشكال القياس جموداً.
قد يبدو الحديث عن أمن أنطولوجي ينعكس على سائر الحقول النظرية والتطبيقية سابقاً لأوانه، لكنه في حقيقة الأمر هو سؤال أولوي ملحّ لمن أدرك معضلة الجنس البشري، وعلينا أن نستعين على الاستجابة على هذا التحدّي بكل الوسائل. إنّني أغتنم الفرصة لكي أخترق البيئة العسكرية والأمنية بالسؤال الأنطولوجي، باعتباره سؤال كفاح كونياً ووطنياً، يجب أن نخوضه جميعاً.