من كان منكم بلا خطيئة فليرمني بحجر!

تشرين- د. رحيم هادي الشمخي:
مثلك أنا.. إنسان.. انظر إلي.. أي فرق بيننا؟
ترى ظاهري ولا ترى باطني.. فلا تعرف الفرق!
أنا أقول لك
أنا من يسمونه مجهول النسب؟!
أنا من يأخذوني بخطيئة لم أرتكبها، يَسْتعيذون مني وكأني الخطيئة الوحيدة في مجتمع مثالي، فترى الجميع يرمونني بحجارتهم.
رُميت للموت، لكن الموت أبى إلا أن يكتب لي حياة.. وأي حياة؟
على قارعة طريق، رماني للموت من يُفترض به أن يكون الحامي والسند..العطوف الرؤوف.
على باب مسجد أو منزل أو مشفى أو ميتم.. لا فرق.. نرمى عن سابق إصرار، ضحايا، لا نعرف، ولن يكون مقدراً لنا أن نعرف، من أجرم بحقنا، من تركنا للمجهول؟
بعضنا لا يحتمل ألم التخلي.. يرحل عن هذه الحياة، وهذا من حسن حظه.. وبعضنا ينجو ليحمل طوال حياته وصمة «لقيط» وفي أحسن الأحوال «مجهول النسب».. لكن، لا فرق. ما زلنا خطيئة!
مجهول أم معلوم النسب .. جريمة التخلي توحد بيننا، أياً تكن الأسباب، المصير واحد .. لنبقى نسل الخطيئة.
يُحكى أن شرطياً عثر على جثة شاب مُمددة على الأرض وسط كومة من الأوراق والكتب القديمة، وبجانبها ورقة مطوية، فتحها وقرأ:
صباح الخير يا قارئ رسالتي، أو مساء الخير، لا أعلم.. الأمر سيان بالنسبة لي.
لعلك تسأل من أكون، ومن يكون صاحب الجثة بقربك؟
لا تستغرب، أنا أيضاً لا أعرف من أكون.
لا تظن أني أتفلسف، فأنا فعلاً لا أدري من أي رحم أتيت وأي دم يجري في عروقي؟
ينعتونني باللقيط .. وبعضهم يناديني بـ «مجهول النسب».. أما أنا فأفضل التسمية الثانية، فهي أقل ألماً.
لا أعرف من أكون.. ولا أعرف لماذا والداي تخليا عني؟
قد أكون ثمن ليلة عابرة، أو ثمرة علاقة لم ترقَ لمستوى الحب، أو ضحية ظروف قاهرة قادت والداي إلى قرار التخلي ظناً منهما أني قد أحظى بحياة أفضل!
ولكن لا يهم فالمجتمع يأبى أن يصدق..
بالنهاية لست أكثر من شخص يجهل نسبه، تركوني وحيداً بعد ساعات من ولادتي على رصيف مقهى. كان الشارع خالياً. سمع أحدهم صراخي ورمق شابة تركض إلى الجهة المقابلة. حملني إلى مخفر الشرطة ومن ثم إلى ملجأ الأيتام.
لم أنعم بدفء العائلة وحنانها. لا أحد يتذكر متى ظهرت أول سن في فمي، ولا أول خطوة، ولا حتى أول كلمة نطقت.. كنت مجرد رقم بين مئات الأطفال المُتخلى عنهم. وحدها الأم تعتني بتلك التفاصيل، وأنا لم يكن لي أم.
صنعت أماً في خيالي لتؤنس وحدتي. أغمض عينيّ وأشم رائحتها وهي تداعب خصلات شعري وتغني لي قبل النوم.
قلت يوماً لأحد زملائي في الملجأ بعد أن سرق قطعة الخبز خاصتي: سأشكوك لأمي، فضحك باستهزاء، وبكيت أنا.. وبكى قلبي.
بين فينة وأخرى كان يزورني الرجل الذي وجدني. كنت أحبه كثيراً.. ولكن من فرط الألم لم أفكر يوماً أن اعترف له. في كل مرة كانت نظرات العطف تملأ عينيه.. لا يجد ما يقوله لي.. هو يعلم أن أحداً في هذه الدنيا لن يكون قادراً على مواساتي.
كان صلتي الوحيدة بماضيّ.
في كل مرة كنت أطلب منه أن يصف لي المرأة التي وضعتني في الشارع. أخبرني أنها كانت ترتدي فستاناً أزرق وذات شعر مموج.
هذا فقط .
نعم.
كلما رأيت سيدة بهذه المواصفات اهتز قلبي: لعلها أمي؟
أتردد يومياً على المكان الذي تُركت فيه.
موطني..
من يدري فقد يعود أحد للبحث عني.
غريب أليس كذلك.. أن تسأل عمن اختار التخلي عنك؟
على غفلة مني.. مرت سنوات العمر وكبرت .. تغيرت ملامحي.. مرآتي اليوم بعمر 25 عاماً، لكن ألمي ما زال على حاله كلما ذكرني أحدهم بأنني مجرد لقيط .
انقطعت عن دراستي مضطراً بعدما تركت الملجأ.. تقلبت في قسوة الحياة متنقلاً بين عمل وآخر. بعت المناديل على إشارات المرور. عملت في ورشات الحدادة والنجارة. تحملت قسوة فصول السنة ما بين حر وبرد. نمت في العراء ليالي توقفت عن عدّها فيما الحياة تزيدني بؤساً وشقاء. لكم حلمت بحضن عائلة يقيني ويعيد الدفء لقلبي. اشتغلت في محلٍ للكتب. صاحبه كان رجلاً طيباً فتح لي قلبه ومنزله وظننت أن الحياة قررت أخيراً أن تفتح لي باباً وأني سأعيش حياة طبيعة كغيري.
أعجبت بفتاة، وتقدمت لخطبتها. حلمت بتكوين عائلة تكون لي موطناً تستقر فيه روحي ونفسي. كنت أومن أن فاقد الشيء يعطيه، بل يعطيه بسخاء، لكن أحلامي تبخرت حين رد والدها قائلاً: عذراً، فأنت مجهول النسب.
لست ألومه. له كامل الحق في معرفة إلى أي أب سينتمي أحفاده.
هذا قدري، فماذا أفعل؟

الحقيقة أني تعبت كثيراً.. تعبت من أن أتظاهر أني قوي أمام نفسي وأمام نظرة المجتمع. تعبت وأنا أن أضمد جراح الحياة وحدي.. وصار لزاماً أن أرحل.
يا قارئ رسالتي، أعتذر إن أطلت عليك، فليس لي أم تبكي حزناً على فراقي، ولا أب يَغزو الشيب شعره ألماً على فقداني. لكني أسامحهما.. نعم أسامحهما من كل قلبي، ودعوت دائماً أن يغفر الله لهما تلك الخطيئة.. تلك الخطيئة التي هي أنا!
كاتب من العراق

أقرأ أيضا:

إعمار المجتمع بتشريع صائب.. إنقاذ البراءة قبل أن تتحول إلى خطر.. مرسوم جديد بأبعاد إستراتيجية لحل مشكلة قديمة

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار