سورية الدولة تستعيد دورها الاجتماعي

تشرين –  د. عماد خالد الحطبة:

في الحروب يتصدر الحديث عن النتائج العسكرية الأخبار، وبالطبع يحتفظ الاقتصاد بموقع في الصدارة لأنه يرتبط بالقوت اليومي للمواطنين، في حين تتراجع النتائج الأخرى وتكاد لا تجد من يبحث فيها إلا أكاديميين، تبقى معظم أبحاثهم في جوارير النسيان والإهمال. لا تختلف الحرب على سورية عن غيرها من الحروب في هذا المجال. بعد أن حسم الجيش العربي السوري المعركة في الميدان، تصدرت الأزمة المعيشية الصورة، في ظل الحصار والعقوبات الظالمة التي فرضتها قوى العدوان على الدولة السورية.
لكن التاريخ علمنا أن الأثر الاجتماعي للحروب هو الأكثر استمرارية، وخاصة تلك الحروب التي تستمر لسنوات طويلة. ما إن تضع الحرب أوزارها حتى تنطلق عملية إعادة الإعمار التي تترافق عادة بمعدلات نمو اقتصادي مرتفعة، وتستطيع خلال فترة معقولة امتصاص معظم الآثار الاقتصادية السلبية التي رافقت الحرب. أما الأثار الاجتماعية فتحتاج إلى زمن طويل وخاصة إذا ترافقت مع تهجير السكان وتغيير مناطق سكناهم، تغيير المهن والأعمال، فقدان المُعيل، أو فقدان معظم أفراد الأسرة، والآثار النفسية للحروب على الأفراد وخاصة الأطفال، وحرمان أجيال من التعليم اللائق والوطني.
هذه بعض الآثار الاجتماعية التي تستدعي علاجاً طويل الأمد، لكنها تحتاج قبل كل شيء إلى وعي بوجودها، وإلى قرار سياسي بحل جذور المشاكل، وعدم الاكتفاء بالتعامل مع النتائج والأعراض. في هذا السياق جاء المرسوم رقم 2 لعام 2023 الصادر بتاريخ 2023 والمتعلق بالأطفال مجهولي النسب. المرسوم يتناول شريحة اجتماعية مهمة تشكل جزءاً من مستقبل البلاد. هؤلاء الأطفال فقدوا عائلاتهم نتيجة الأعمال الحربية، وبعضهم نتج عن زيجات غير موثقة لغياب السلطات المدنية عن أجزاء من الجغرافيا الوطنية خلال سنوات الحرب.
في سورية يحصل المواطن على حقوق يحرم منها المواطنون في معظم الدول العربية. أهم هذه الحقوق التعليم والصحة، والتي يستطيع أي مواطن سوري الحصول عليها مجاناً في المدارس والمشافي والمراكز الصحية المنتشرة في البلاد. وعلى الرغم من ظروف الحرب استطاعت سورية المحافظة على معدلات متدنية من البطالة بحدود 10% في حين يبلغ المعدل في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا 22.4%. إن بقاء الأطفال مجهولي النسب خارج منظومة التعليم والصحة والعمل في البلاد، يعني أننا نحتضن قنبلة اجتماعية موقوتة يمكن أن تنفجر في أي لحظة.
لهذه الأسباب يصبح هذا المرسوم أمراً ملحاً ومهماً في سياق التعافي الاجتماعي داخل سورية.. وعلينا هنا النظر إلى مصلحة سورية الوطن، بعيداً عن الكثير من الاعتبارات الشخصية أو الثأرية …
إن الانتصار لا يتحقق عندما تتوقف أصوات المدافع. لا بد أن يتمتع الانتصار بديناميكية تجعله يتغلب على كل الآثار السلبية الناجمة عن الحرب، وأن يتحقق النصر على جبهات أخرى أهمها جبهة التقدم الاجتماعي. يشكل المرسوم 2 لعام 2023 نقلة مهمة في تحديث منظومة القوانين الاجتماعية. سبق للمرسوم 276 لعام 1969 أن نص على اعتبار كل من وُلد من أبوين مجهولين أو من أم معلومة وأب مجهول عربياً سورياً. ليأتي المرسوم الجديد لتنظيم الرعاية بهذا المواطن، وخاصة أن المشكلة قد تفاقمت كنتيجة للحرب الظالمة التي يتعرض لها الشعب السوري منذ أكثر من عشر سنوات.
لقد أناط المرسوم مهمة رعاية الأطفال مجهولي النسب منذ استلامهم وحتى بلوغهم سن الثامنة عشر بهيئة عامة تسمى «بيوت لحن الحياة» ترتبط بوزارة الشؤون الاجتماعية والعمل. تعمل هذه الهيئة على ضمان حصول هؤلاء المواطنين على التعليم والصحة والتدريب المناسبين للخروج إلى المجتمع كمواطنين صالحين يساهمون في إعادة إعمار بلادهم. هذا إضافة إلى البعد الإنساني الذي لا يحمل الأطفال أوزار ما حدث ويحدث حتى لو كان آباؤهم ممن خرجوا على الدولة، بل ينظر المرسوم إلى جميع المواطنين السوريين بصفتهم أبناء للوطن لهم عليه حق الرعاية.
تنقلنا هذه الرؤية إلى زاوية أخرى من هذا المرسوم، ففي الوقت الذي تتهرب فيه معظم دول العالم، وجميع الدول العربية تقريباً من مسؤولياتها الاجتماعية، وتحاول تخفيف الأعباء المالية على موازناتها، تتقدم الدولة السورية، التي تعاني من ضائقة اقتصادية وعقوبات وحصار، لتنظر بعين المسؤولية إلى جميع الفئات الاجتماعية بما فيها الفئات الأكثر تهميشاً، وتُحمّل موازنتها المزيد من الأعباء لتحقيق العدالة الاجتماعية.

نستعيد هنا الدور التاريخي الذي لعبته الدولة تجاه أبنائها، والذي خلق استقلالاً اقتصادياً وسياسياً أثار حنق الأعداء وغيرة الأصدقاء، لنستبشر بأن الدولة السورية في سياق تعافيها من آثار الحرب سوف تستعيد دورها الاقتصادي والاجتماعي وتعود لتتقدم الصفوف في حماية حقوق مواطنيها.
المرسوم 2 لعام 2023 خطوة مهمة إلى الأمام، ومثل يجب أن تحذو حذوه معظم الدول العربية لرفع الظلم عن فئة اجتماعية مهمشة، وتفعيل دورها في بناء مستقبل أوطانها.
كاتب من الأردن

أقرأ أيضا:

من منكم بلا خطيئة فليرمني بحجر!

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار