إعمار المجتمع بتشريع صائب.. إنقاذ البراءة قبل أن تتحول إلى خطر.. مرسوم جديد بأبعاد إستراتيجية لحل مشكلة قديمة
تشرين- مها سلطان:
لأن الهدف، لم شمل الوطن.. ولأن لم شمل الوطن مسؤولية باتجاهين: 1- دولة ومؤسسات. 2- «نحن» أي الشريحة الاجتماعية التي يمكنها تقديم المساعدة والدعم لناحية تسهيل المهمة وانجازها..
.. ولأن المستهدفين هم الشريحة الأضعف، أطفال ولدوا ويولدون تحت سقف الحرب، كان لزاماً أن لا يؤخذوا بجرمها وتداعياتها.. أطفال أجبرتهم الحرب على أن يكونوا مجهولي النسب، فاقدي الأب والأم، أو أحدهما، أو ولدوا بفعل زيجات في مناطق مضطربة وتعثر تدوينها في سجلات الدولة، أو نتيجة في مناطق هاجمتها المجموعات الإرهابية المسلحة واعتدت على نسائها.. الاغتصاب هو فعل إرهاب.. والنتيجة طفل بلا ذنب، بلا حول ولا قوة..
.. ولأن حماية الأطفال غاية إنسانية أولاً، واجتماعية ثانياً، ووطنية ثالثاً، واستراتيجية للمستقبل رابعاً.. جميع الأطفال، بأربع جهات الوطن، دون تمييز، لا حسب ولا نسب، لا أنثى ولا ذكر..
مرسوم الرئيس الأسد صدر بشكل أساسي ليأخذ بالنتائج وليضع الجميع أمام مسؤولياتهم تجاه الأطفال مجهولي النسب
لكل ذلك جاءت الخطوة الأولى من الدولة، من الرئيس بشار الأسد عبر المرسوم التشريعي رقم 2 للعام 2023 الخاص برعاية وتنظيم شؤون الأطفال مجهولي النسب.. وفيه تلتزم الدولة السورية بتأمين بيئة قانونية وتشريعية لحماية الأطفال مجهولي النسب وتقديم الرعاية اللازمة لهم بدءاً من اعتبار مجهول النسب عربياً سورياً، ومن ثم ضمهم إلى دور الرعاية (بيوت لحن الحياة) و (تطوير التعاون مع المجتمع الأهلي بمنظماته وجمعياته) ليشبّوا في بيئة صحية ومناسبة، على قاعدة العدالة والمساواة بين جميع أبناء الوطن في الحقوق والواجبات، بما يساهم أولاً في بناء مستقبل أفضل لهم، وثانياً، بما يساهم في تحصين المجتمع وحمايته من تهديدات مستقبلية تتمثل في استغلال هذه الشريحة من الأطفال وتحويلها إلى تربة خصبة للإرهاب والتطرف والجريمة.
خلف هذا المرسوم التشريعي، وقفت جهود كبيرة استمرت على مدى سنوات، تحت رعاية واهتمام السيدة الأولى أسماء الأسد، في سبيل إلى منجز متكامل يحيط بكل احتياجات هذه الشريحة من الأطفال التي تحتاج إلى عناية وتدبير خاصين جداً وذلك لخصوصية وضعها إنسانياً واجتماعياً وقانونياً، لذلك تركزت الجهود على أن يكون المرسوم التشريعي (رقم 2) شاملاً وليكون قطافاً خيّراً لسنوات من العمل والجهد المجتمعي، حاملاً في طياته أبعاداً قانونية وإنسانية واجتماعية وأخلاقية ضمن بيئة مؤسساتية ستكون مسؤولة كامل المسؤولية عن الأطفال مجهولي النسب في ظل هذا التشريع الإنساني العادل الذي سيُضاف إلى دعائم تامين شريحة من أطفال سورية.
وللسيدة الأولى أسماء الأسد أياديها الخيّرة في قضايا عديدة تتعلق بأطفال سورية الذي يشكلون جوهر رؤيتها لمستقبل سورية ومنعتها وتماسكها، ومن ضمن تلك الرؤية كان العمل المُضني والصادق وصولاً إلى إنجاز مركز زرع الخلايا الجذعية للأطفال المصابين بالسرطان منتصف عام 2021 رغم كل التحديات والمصاعب، ثم إلى إنجاز برنامج وطني عمليّ لمواجهة نقص السمع عند الأطفال وإعادة السمع للأطفال الفاقدين له، إلى رعاية أبناء الشهداء، مروراً بدعم التميز والتفوق كنهجٍ واستراتيجية وطنية تقوم على أسس وتطلعات واضحة، وصولاً اليوم الى التشريع الخاص بـ مجهولي النسب.
إما أن تقوم الدولة والمجتمع بواجبهما تجاه الأطفال مجهولي النسب وإما أن يُتركوا لمصيرهم ليتحولوا عالة أو خطراً على وطنهم ومجتمعهم
مع استمرار الحرب الإرهابية، العسكرية والاقتصادية، ضد سورية، كان طبيعياً أن يتحول الأطفال مجهولي النسب إلى ملف أساسي على طاولة الدولة، أياً تكن أعدادهم، ولا يهم هنا إن كانت كثيرة فهذا لا يُعِيب في ظل ظروف الحرب والحصار التي يعيشها السوريون، لذلك لم يصدر هذا المرسوم ليأخذ بالأسباب والمسببات فقط والتي يعرفها الجميع، بل صدر بشكل أساسي ليأخذ بالنتائج، وليضع الجميع، حتى على مستوى الأفراد، أمام مسؤولياتهم، ذلك أن «الطفل مجهول النسب ومنذ ولادته لا يوجد أمامه إلا خياران: إما أن تقوم الدولة والمجتمع بواجبهما تجاهه ليتلقى الرعاية والاهتمام المناسبين فينشأ بظروف قريبة جداً من أقرانه ويصبح مواطناً فاعلاً منتجاً، وإما أن يُترك لمصيره، فيصبح عالة على وطنه ومجتمعه، مضراً بهما وخطراً عليهما».
لا نعتقد أن أحداً في العالم يجد رضيعاً مرمياً في العراء، يبكي مستجدياً مستنجداً إلا ويرق قلبه ألماً وتعاطفاً.. وغضباً. يحمله إلى أقرب ميتم أو أقرب مشفى، لتنتهي مهمته هنا، فيما يبدأ هذا الطفل رحلته في الحياة مع وصمة «مجهول النسب» في مجتمع يأخذه بجرم والديه، وطالما أنهما تخليا عنه، فهو بلا شك طفل غير شرعي، رغم أن واقع الحال قد لا يكون كذلك.
في سورية، المسألة أوسع وأكبر وأعقد من كون والدين تخليا عن طفلهما الرضيع.. هذه أبسط المسائل اليوم، وحتى إنها لا تكاد تذكر في خضم مآسي الحرب التي رمت مئات الأطفال إلى الشوارع، ونحن هنا نتحدث عن الحرب العسكرية والاقتصادية على السواء. آباء وأمهات لا يجدون ما يسد رمق يومهم، تخلوا عن أطفالهم على باب مسجد أو مشفى، أو ميتم، أو على باب رجل ميسور. أقصى أمانيهم أن يحظى بحياة أفضل، أن يجد من يطعمه على الأقل، فلا يموت جوعاً على مرأى منهما.
آباء وأمهات غيبتهم الحرب وتركوا وراءهم فلذات أكبادهم، دون أن يتعرف عليهم أحد. أباء وأمهات كانوا ضحايا مجازر خلفها الإرهاب. مناطق بأكملها هاجمها الإرهابيون، وقد يكون طفلاً أو اثنين أو ثلاثة نجوا، ولكن لا أحد يعرف ذويهم. آباء وأمهات في مناطق الاضطرابات لم يتسنَ لهم فرصة تدوين زيجاتهم في سجلات الدولة، والنتيجة أطفال بلا نسب. هناك عائلات فُقد أطفالها بحكم النزوح والتهجير.
في المناطق التي سيطر عليها الإرهابيون، أجبرت الكثير من النساء على الزواج من هؤلاء، وبعضهم أجانب، وبعد تحرير هذه المناطق وقتل الإرهابيين أو فرارهم، كان هناك عشرات الأطفال مجهولي النسب لا ذنب لهم سوى أنهم كانوا ضحية «زواج إرهابي» لم يملك الأهل سبيلاً لمنعه….. إلخ.
يمكن أن نقص هنا مئات الحالات، مئات المآسي، التي نجم عنها أطفال مجهولي النسب، وليس بالضرورة أن يكونوا غير شرعيين. الحرب فرضت قوانينها، همجيتها وإرهابها، وكان الأطفال حلقتها الأضعف.. هذا لا يعني أن مسألة مجهولي النسب لم تكن موجودة، هي موجودة في سورية وفي كل دول العالم، ولكنها وجدت بنسب محدودة جداً.
المرسوم صدر ليكون حلاً استباقياً واحتواء لأزمة إنسانية اليوم قبل أن تتحول كارثة اجتماعية وطنية في المستقبل
لطالما كان المجتمع السوري متسامحاً عطوفاً وكريماً.. أليس هذا المجتمع نفسه هو من أنشأ- بمبادرة وتمويل منه – جمعيات خيرية ودوراً لرعاية الأيتام ومجهولي النسب، معتمداً على التبرعات من ميسوري الحال.. أليس هو نفسه من بنى ثقافة مجتمعية كاملة تُعلي شأن من يرعى طفلاً يتيماً أياً كان أمره، مجهولاً أم معلوم النسب.. فما الذي تغير اليوم؟
الحرب على الأغلب كانت وما زالت شديدة الوطأة على السوريين، لكنها لم تغيرهم بقدر ما وسعت لديهم دائرة الخوف والمخاوف، وحولتهم إلى متوجسين بصورة دائمة، يحسبونها على ألف وجه ووجه.
– هل إن تضاعف العدد يخيفهم بدعوى أن إدماج مجهولي النسب في المجتمع سيؤثر على أخلاقياته وسلوكياته العامة؟
– هل فكرة أن بعض هؤلاء هم من نسل المسلحين الذين عاثوا في الوطن تدميراً وتخريباً، وتركوا لدى السوريين مآسي لا تنسى وجراحاً لا تندمل وبالتالي لا يمكن لهم تقبلهم أو القبول بهم؟
– هل هو الاعتقاد بأن تقبل أو قبول هؤلاء سيوسع من ظاهرة مجهولي النسب، بمعنى سيشجع الآباء والأمهات على التخلي عن أطفالهم بصورة أكبر.. أو سيشجع العلاقات خارج إطار الزواج ويدفع بالمجتمع نحو الانحلال والتفكك؟
أياً يكن من أمر المتخوفين والمتوجسين، ومن أمر من يعترض ويرفض، فإن مرسوم الرئيس الأسد حول مجهولي النسب جاء ليضع النقاط على الحروف، وليكون حلاً استباقياً، واحتواء لأزمة إنسانية اليوم، قبل أن تتحول إلى كارثة اجتماعية وطنية في المستقبل.
لنوضح أكثر.
– ركز المرسوم بصورة أساسية على حق الحياة (كل طفل لديه هذا الحق بكل أبعاده وبصرف النظر عن مشكلات الكبار ونزاعاتهم وحروبهم وبصرف النظر عن الموارد وتوافرها أو نقصها، وعن الأوضاع الاقتصادية وترديها، وبصرف النظر عما فعله أباؤهم من إهمال وأخطاء «فلا تزر وازرة وز أخرى» ولا يحمل الصغار خطايا وتبعات الكبار) .
أي منا لم يختر والديه ولا نسبه.. فلنختر أن نكون قلباً واحداً.. عائلة واحدة.. مجتمعاً واحداً.. وطناً واحداً قوياً بجميع أبنائه
– ركز المرسوم على البيئة الداعمة لتربيتهم وتعليمهم وكذلك حمايتهم من الاستغلال والإهمال.
– ركز على ضمان تمتعهم بجميع الحقوق والحريات دون تمييز عن أقرانهم.
– ركز على واجبات ومسؤوليات الدولة والمجتمع معاً تجاه هذه الشريحة من الأطفال.
كل ما سبق لا يتعارض مع القيم الإنسانية والمجتمعية والشرعية بل يعززها ويكرسها، أما النتائج فهي لا تصب في مصلحة الطفل مجهول النسب فقط بل في مصلحة المجتمع عموماً بدرجة لا تقل أهمية، إحداهما عن الأخرى.
– والأهم أن المرسوم يُصحح ويُقونن عملية الرعاية البديلة أو سماه «الإلحاق/الاحتضان» للأسر الراغبة في رعاية طفل مجهول النسب، ويُوصّفها بخطوات تنفيذية واضحة، حتى يحصل الطفل مجهول النسب على دفء العائلة وحنانها فينشأ على حبها وحب الوطن الذي لم يتخل عنه، ليأخذ بعدها دوره في عملية بناء الوطن وتعزيز صموده والدفاع عنه.
الاحتضان والتنشئة السليمة هما اللذان يجعلان الطفل، أي طفل، معلوم أم مجهول النسب.. يجعلانه فرداً صالحاً لأهله، لمجتمعه ووطنه.. ما شأن الأطفال مجهولي النسب بما كان عليه آباؤهم الذين تخلوا عنهم قسراً أو تقصيراً.. المسألة ليست جينات، ألا نسمع ونرى يومياً أبناء يسيئون لأبائهم بأفظع الإهانات وحتى الاعتداء عليهم وهم من صلبهم، أليس في هؤلاء من رفع سلاحه بوجه الوطن وتواطأ وتآمر على أمنه وأمن أهله..
أي منا لم يختر والديه ولا نسبه.. فلنختر أن نكون قلباً واحداً، عائلة واحدة، مجتمعاً واحداً.. وطناً واحداً قوياً متماسكاً يسمو بجميع أبنائه.
أقرأ أيضاً: