إيران تعلي مداميكها
عبد المنعم علي عيسى:
شكّل إحياء «الاتفاق النووي الإيراني» المعروف باتفاق فيينا 2015، والذي ألغاه الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب شهر أيار 2018، أحد المرتكزات التي قامت عليها إستراتيجية الرئيس الحالي جو بايدن، الأمر الذي يمكن لحظه في برنامجه الانتخابي ثم في مضيه نحو إطلاق مفاوضات فيينا من جديد بعد نحو ثلاثة أشهر من وصوله للسلطة في البيت الأبيض شهر كانون الثاني من العام 2020، لكن تلك المفاوضات كثيراً ما تعثرت لتشهد فترات انقطاع وصولاً إلى يوم 20 كانون الأول الماضي الذي قام فيه موقع «بريكنغ نيوز» الأمريكي بتسريب مقطع مصور لاجتماع جرى في البيت الأبيض أشار الموقع إلى أنه انعقد في شهر تشرين الثاني الماضي، ومن الواضح في سياقات المقطع أن المجتمعين كانوا يناقشون موضوع المفاوضات مع طهران حيث راح كل فرد منهم يدلي بدلوه قبيل أن يحسم الرئيس النقاش واصفاً ذلك «الاتفاق النووي» بأنه «ميت».
في أعقاب ذلك التسريب الذي تلته تصريحات لمسؤولين أمريكيين تصب في محتواه، راحت التحليلات والتقارير التي تنشرها مواقع غربية بعضها وثيق الصلة بغرف صناعة القرار في بلدانها تطرح سيناريوهات عدة، حتى إن البعض منها، كما فعلت «الواشنطن بوست» التي نشرت قبل نحو أسبوعين عدة لقاءات مع محللين غربيين وشرقيين، راح يجزم بأن هناك حرباً إيرانية- أمريكية قادمة لا محالة، وأن الولايات المتحدة ستتخذ من «إسرائيل»، في تلك الحرب، نقطة ارتكاز لا بديل عنها.
هذه السيناريوهات كلها، على الرغم من «رصانة» المنابر التي تصدر عنها، هي في مجملها تندرج في إطار الضغوط التي يمكن من خلالها استهداف «الأعصاب» الإيرانية، وبمعنى آخر فإنها أقرب ما تكون إلى الحرب النفسية التي تمثل هنا سقف المرامي، ومن الصعب الآن تصور أن تذهب الولايات المتحدة إلى حرب جديدة في الشرق الأوسط قياساً إلى معطيات عدة أبرزها الضمور الذي باتت تعانيه القبضة الأمريكية ما بعد 24 شباط 2022، فعلى الرغم من أن الصراع الدائر في أوكرانيا لم تقترب لحظات الحسم فيه بعد، إلّا أن التداعيات التي تركها على مختلف الأزمات والصراعات العالمية لا تزال تسير في تمرحلاتها الماضية في إضعاف تلك القبضة حتى لتبين الشقوق بوضوح في جدارات نظام الهيمنة الأمريكي على العالم والذي ساد على امتداد ثلاثة عقود بدءاً من العام 1991، أما القول إن «اسرائيل» ستكون «نقطة ارتكاز في تلك الحرب» فهو كافٍ ليحيل الرواية برمتها إلى خانة حدودها تقع ما بين الوهم والخيال، فجميع الحروب التي خاضتها الولايات المتحدة في المنطقة في غضون العقود الثلاثة الماضية كانت «تحرم» على «تل أبيب» المشاركة فيها لاعتبارات عدة منها أن واشنطن تدرك جيداً التداعيات التي يمكن لتلك المشاركة أن تتركها على نسيج المنطقة، فكيف والأمر إذاً ما بعد ظهور علائم «الكسل الوظيفي» الذي ظهر أداؤه عليها بدءاً من تموز 2006 ثم وصولاً إلى حروب غزة الخمسة التي بدأت عام 2008 وكان آخرها عام 2021؟.
ثمة بُعد آخر لانعدام الاحتمالية التي تطرحها الفرضيات السابقة التي تسوق لإمكان قيام «إسرائيل» بمغامرة عسكرية ضد إيران أو المشاركة فيها، وهو يتمثل بالعلاقة الشائكة راهناً ما بين الولايات المتحدة والكيان الإسرائيلي تحت حكم بنيامين نتنياهو المنهارة مصداقيته في الأوساط السياسية الأمريكية جنباً إلى جنب أوساط النخب بشتى صنوفها، الأمر الذي يمكن تلمسه في العديد من التقارير التي تعرض لها صحف لطالما اشتهرت بالتسويق للسياسات الإسرائيلية على امتداد العقود الماضية مثل الـ «نيويورك تايمز» والـ«واشنطن بوست» التي وصفت حكومة هذا الأخير قبل أيام بـ «المركب الذي يسير عكس التيار» وبأن الإصرار على مسار كهذا «من شأنه أن يهدد المركب بالغرق»، وتلك نفحة غير معتادة وهي تشير إلى تغير في المزاج العام الأمريكي تجاه حالة التطرف التي وصل إليها الكيان الإسرائيلي والتي تمثل حكومة نتنياهو الأخيرة ذروتها والتي قد لا تكون الأعلى لاحقاً.
إيران اليوم على أعتاب دور إقليمي بارز، والسياسة الإيرانية تبنى على ثوابت ورؤى بعيدة المدى، وقراراتها تستند إلى حقائق الجغرافيا والتاريخ التي تقول إنها حضارة راسخة على أرضها بعمر آلاف السنين، وهذا كله كفيل للجزم بأن حرباً مفترضة عليها ستكون كإسفين آخر يدق في عرش الهيمنة الأمريكية على العالم.