التحولات الجذرية وكسر هيمنة الدولار كسلاحٍ أمريكي
ميشيل كلاغاصي:
لطالما عدّ الكثيرون حول العالم بأن الدولار الأمريكي, شكّلَ على مدى العقود الطويلة سلاحاً مالياً واقتصادياً, لم يقلّ أهمية عن كافة الأسلحة العسكرية التقليدية التي استخدمتها الولايات المتحدة في حروبها ومعاركها الباردة والساخنة على حدٍّ سواء, واستطاعت بفضله حكم العالم بأسره, على الرغم من صغر حجم تكاليف إنتاجه, والتي لا تساوي ثمن الورق أو الحبر الذي يُطبع به.
ورغم كافة المعارك التي خاضها الدولار مقابل منافسيه وخصومه وأعدائه من العملات, بالإضافة إلى عديد النكسات والاضطرابات التي أصابته, وأحدثت في جدران قوته خدوشاً وندوباً عميقة, إلّا أنه ظل محافظاً على وجوده ومكانته الدولية التي تفوق قيمته الحقيقية, أمام تصاعد مكانة وقوة غير عملات, مع فارق أنه لم يستطع محو فكرة «انهياره» من عقول الاقتصاديين والماليين وحتى الناس العاديين.
ففي السنوات الأخيرة، ضاعف المراقبون توقعاتهم وتحذيراتهم من الانهيار الحتمي للدولار, وعادت وسائل الإعلام للحديث عن فترات الركود التي شهدتها الولايات المتحدة منذ بداية السبعينيات، خصوصاً تلك التي سجل فيها الدولار انخفاضاً في قيمته الحقيقية, بالتوازي مع تواتر الحديث عن ترجيح احتمالية مواجهة الولايات المتحدة خلال عام 2023, حالة ركودٍ جديدة ومعدلات تضخمٍ عالية للغاية, وهذا بدوره أخذ ينعكس بشكلٍ سلبي على حالة الثقة بالدولار في العديد من الدول, وسط استمرار الولايات المتحدة باستخدام عملتها كسلاح ضد أعدائها وأصدقائها من دون تمييز.
تبدو احتمالية الركود الجديدة, قد تترافق وبتوقعات عديد الاقتصاديين, بحدوث انخفاضٍ في قيمة الدولار، وقد يتسبب ذلك في حدوث اضطرابات مالية في جميع أنحاء العالم, وهذا بدوره سيشجع على الاستثمار في العملات المنافسة و«المعادية» للدولار، وسيؤدي إلى زيادة قيمتها, الأمر الذي لم ولن ترحب به الولايات المتحدة, ومع ذلك يبدو أن الإضرابات والحروب التي يشهدها العالم اليوم, وخصوصاً تلك المتعلقة بالنفط والغاز, كشفت تراجع هيمنة الدولار على أسواق الطاقة الدولية.
ومع تنامي المكانة الاقتصادية للصين, والتي تعد حالياً ثاني أكبر اقتصاد في العالم، واعتمادها على شراء النفط والغاز من روسيا وإيران وفنزويلا وعدد من البلدان الإفريقية، ودفع ثمنها باليوان, ومع إعلان الرئيس الصيني شي جين بينغ مؤخراً عن استعداده لدفع ثمن النفط والغاز المستورد من الدول العربية الخليجية باليوان الصيني, بات من الصعب على واشنطن التفرد في الملعب الخليجي, وفرض عليها تقبّل فكرة التعايش مع بكين و«البترو– يوان», وداخل منظمة أوبك بفضل امتلاك حلفائها القدامى روسيا وإيران وفنزويلا حوالي40٪ من احتياطيات النفط فيها، وامتلاك حلفائها الجدد في دول مجلس التعاون الخليجي40٪ أخرى من احتياطيات أوبك، بينما تمثل دول مناطق النفوذ الصيني- الروسي المشترك الـ20٪ المتبقية.
وعليه، يبدو إقدام الصين على دفع أثمان مشترياتها النفطية باليوان قد تتسبب بصداعٍ كبير للولايات المتحدة، وبدأت تتحسس ضعف وتراجع هيمنة الدولار والولايات المتحدة عموماً على المستوى العالمي، وبحدوث تغييراتٍ جذرية في سوق الطاقة الدولي, وفي أماكن تفردها بالسيطرة منذ عقود طويلة.
وبهدف تعزيز الثقة ومكانة اليوان الصيني, دفعت بكين بإمكانية التحويل ما بين اليوان والذهب في بورصاتها التجارية, الأمر الذي سيوفر فوائد اقتصادية ومالية للسياسيين والمستثمرين على حدٍّ سواء, بالتوازي مع تراجع اهتمام المستثمرين حول العالم بسندات الخزانة الأمريكية، الأمر الذي يسرّع عملية «إزالة الدولرة» في جميع أنحاء العالم, وسط تزايد عدد من المصارف المركزية لبعض الدول, بتقليص اعتمادها على الدولار, ناهيك بالاتفاق المبدئي الروسي- الهندي على الدفع بعملاتها الوطنية في عمليات التبادل التجاري البيني وقف استخدام الدولار في التسويات التجارية المتبادلة، والدفع بعملاتهما الوطنية.
بالإضافة إلى استياء عدد من الدول كروسيا والعراق وإيران وفنزويلا وأفغانستان, من السلوك الأمريكي, واستغلاله الحرب في أوكرانيا, وفرض العقوبات اللاقانونية وتشديد سياسة الدفع بالدولار، الأمر الذي هدد مستقبل النظام المالي العالمي, وفرض نظاماً أمريكياً اقتصادياً جديداً, بالإضافة إلى ما أثبته الواقع الدولي, نتيجة سياسة واشنطن وحلفائها في أوكرانيا, المعادية للاقتصاد الروسي وقطاع النفط والغاز, وبأنها أضرّت بالدولار, واستفاد منها الروبل الروسي, وأصبح أحد أقوى العملات في العالم.
من الواضح أن التغيرات الجذرية التي بدأت تواجه النظام العالمي الحالي, ومع تكرار ضرباتها واستهدافاتها لنظام الهيمنة الأحادي, والتي أخذت تتضح شيئاً فشيئاً, لتشكل انطلاقة اللحظة الأولى التي تشعر فيها الولايات المتحدة بوجود الصين كمنافس حقيقي, وربما متفوق أيضاً, ويحظى بدعمٍ كاملٍ من روسيا وعديد الدول حول العالم, وكل من يجتمعون على إعادة تصحيح التاريخ والنظام الدولي والمنظمة الأممية, وعلى عودة الدولار إلى حدوده الحقيقية, بما يؤكد نهاية مرحلة -الذروة- للقوة الأمريكية, وبات عليها التخلي عن استمرار تحويل الدولار إلى سلاح.