السياسة الخارجية التركية وعلاقتها بخطوط النفط والغاز
تشرين- ميشيل كلاغاصي:
من خلال نظرة عامة على عشرات الصراعات والحروب السابقة والحالية حول العالم، تظهر أهمية مصادر الطاقة النفطية والغازية بكل أشكالها، وخرائط خطوط نقلها وأسواقها، بما لا يدع مجالاً للشك بأنها تلعب الدور الرئيس في تلك الحروب والصراعات، بما لها من قدرة على تحديد مدى قرب أو بُعد الدول عن مركز الصراع، وحاجة الدول للدفاع عن ثرواتها، وضمان أمنها، وتوثيق علاقاتها الاستراتيجية.
وبسهولة أيضاً يمكن ملاحظة انخراط تركيا في أغلبية الصراعات النفطية والطاقة على الساحتين الإقليمية والدولية، على الرغم من عدم امتلاكها حقولاً وآباراً نفطية أو غازية وتقنيات الطاقة النووية، لكنها تملك موقعاً جغرافياً مميزاً ومهماً، جعل منها بوابةً برية أو جسراً بين أوروبا وآسيا، ومنحها مرونةً بحرية كبيرة للانتقال والوصول إلى أحواض البحر الأبيض المتوسط وبحر مرمرة وبحر إيجه والبحر الأسود، إضافة إلى كونها تشكل بوابة العبور البري الرئيسة بين الغرب والشرق والشمال والجنوب.
هذا الموقع الجغرافي، تحول إلى موقعٍ جيوسياسي للطاقة العابرة من روسيا إلى تركيا إلى دول الاتحاد الأوروبي، نتيجة قرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مؤخراً، بتحويل تركيا إلى مركزٍ دولي للغاز الروسي، نتيجة الوضع الشائك والمعقد الذي فرضته الحزم المتتالية للعقوبات الأمريكية والأوروبية على روسيا، والمواجهة العسكرية المباشرة بالوكالة لـ«ناتو» والاتحاد الأوروبي مع روسيا في أوكرانيا، إضافة إلى علاقات روسيا وتركيا البراغماتية، وعلاقات تبادل المنفعة المشتركة.
بالتأكيد كان وقع قرار الرئيس فلاديمير بوتين على تركيا مفاجئاً ومفرحاً، وهي التي لم تتلقَ من حلفائها الغربيين أي عرضٍ مشابه إن كان على مستوى المشروعات النفطية والغازية، أو مساعدة تركيا على بناء محطات للطاقة النووية، طوال سنوات وجودها في «ناتو» وفي المحور الغربي عموماً، في حين كانت روسيا الدولة الوحيدة التي تقدمت نحو تركيا لبناء أول محطة طاقة نووية تركية.
إن أطماع تركيا بالمكاسب القادمة، جعلها تعلن عن تغيير سياساتها الخارجية التي كانت تعتمد على تحركات الجيش التركي ودعمه للوصول إلى غاياتها النفطية والغازية, وهذا ما دفعها نحو عديد المشاكل والاستفزازات والصراعات والحروب، مع أغلبية دول الجوار وبعض دول البحر الأبيض المتوسط كـليبيا واليونان ومصر، ناهيك بدخولها كقوات احتلال إلى الأراضي السورية، ومحاولاتها المكشوفة لبناء جدران إسمنتية, وتحويل عمق 30 كم من الأراضي السورية إلى مناطق معزولة، والعرض الذي قدمته إلى ما يسمى «قوات سورية الديمقراطية» بحمايتها، والحفاظ على إدارتها الذاتية، في حال موافقة هذه الأخيرة على سيطرة تركيا على مناطق شرق الفرات، عند خروج وانسحاب القوات الأمريكية الذي قرره الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب في أواخر عهده، وما تلا ذلك من عمليات عسكرية داخل الأراضي السورية، تحت عناوين «ضمان الأمن القومي التركي» ومحاربة «الإرهاب الكردي»، في حين أنها كانت تخفي أهدافها في السيطرة على منابع النفط السوري، وكذلك التوغل داخل الأراضي العراقية للوصول إلى الموصل وتكريت كمناطق نفطية بامتياز.
إن تغيير السياسة الخارجية التركية يفترض بها العودة بطريقةٍ أو بأخرى إلى سياسة «صفر مشاكل» مع دول الجوار، وعليه تحاول اليوم مدّ يدها نحو سورية وهي الدولة النفطية والغازية المهمة، خصوصاً مع اكتشاف الغاز في السواحل السورية، حيث تشكل سورية، جغرافياً، صلة الوصل بين تركيا والعالم العربي، والخليجي تحديداً, وإمكانية ربط خطوط إنتاج خط الغاز العربي ووصوله إلى تركيا مركز الغاز الدولي كما أراده الرئيس بوتين، الذي دفع أنقرة لاستجرار صادرات بعض الدول في حوض بحر قزوين كـأذربيجان، ودول جنوب شرق أوروبا كـاليونان وبلغاريا وصربيا والمجر والنمسا، لتضاف إلى الواردات الروسية من دول البلقان عبر أوكرانيا، كـمولدوفا ورومانيا وبلغاريا، لتصل في نهاية المطاف إلى تركيا- المركز الدولي للغاز الدولي- وسط محاولات تركية لإقناع واشنطن بأنها ستعمل على تخفيض اعتمادها على واردات الاتحاد الروسي أكثر فأكثر.
لم تكتفِ تركيا بتنويع وارداتها من الغاز، بل اتجهت نحو البحث والتنقيب في مياهها الوطنية في البحر الأسود وبحر إيجه والبحر الأبيض المتوسط، وأعلن الرئيس التركي رجب أردوغان في آب عام 2020 وسط تشكيك البعض، عن اكتشاف حقل غاز ساكاريا الكبير بحجم يزيد على 400 مليار متر مكعب في الجزء الغربي من جرف البحر الأسود, تبعه إعلان السلطات التركية في كانون الأول 2022، اكتشاف حقل غاز بحجم 58 مليار متر مكعب في الجزء الشرقي من جرف البحر الأسود.
لم تستطع تركيا، بسبب أطماعها وأحلامها, الصمود داخل إطار «تغيير السياسة الخارجية» والالتزام بعلاقات حسن الجوار، حيث تسبب بحثها وتنقيبها عن الغاز في المناطق المتنازع عليها غرب قبرص في صيف عام 2020، بتفاقم العلاقات اليونانية – التركية، وبتوتر العلاقات مع فرنسا، كذلك نجدها قد وضعت إصبعاً لها في عمليات التنقيب في جرف شرق البحر الأبيض المتوسط مع بعض الدول مثل مصر وقبرص، والكيان الصهيوني الذي يصرّ على استمرار الاحتلال ونهب الغاز الفلسطيني.
يبدو أن الغاز أصبح هاجس الدولة التركية، ومحدداً لمدى تعاونها ومرونتها أو شراستها في التعامل مع الدول المحيطة، والدول الأوروبية والآسيوية على حدٍّ سواء، وسط محاولات أردوغان فرض تركيا كسوق تركي- دولي مستقل للغاز والنفط، وضمان زيادة أهميتها الجيوسياسية، ليس كدولة عبور فقط، إنما كدولة مشاركة بقوة في بيع الغاز الطبيعي للأسواق العالمية، بما فيها السوق الأوروبية.
بالتأكيد كان للأعمال التخريبية – الإرهابية التي تعرضت لها خطوط أنابيب «نورد ستريم 1 و2» الروسية، التأثير الكبير في قرار الرئيس بوتين بتحويل تركيا إلى مركز دولي للغاز الروسي، ليس نتيجة الغدر الأوروبي فقط، بل من أجل ما تحاول تركيا تقديم نفسها لروسيا وإقناعها بأنها دولة شراكةٍ موثوقة، بغضّ النظر عن الأزمة الأوكرانية شديدة التعقيد.
تبدو روسيا مضطرة لقبول مخاطر نقل الغاز إلى أوروبا عبر تركيا، لتستطيع تعويض تخفيض اعتمادها على نقل الغاز الروسي عبر أوكرانيا، وأقله إلى حين انتهاء المواجهة الأوروبية – الأطلسية بالوكالة مع روسيا التي فرضتها واشنطن، كذلك يبدو مهمّاً لدول الجوار التركي أن تتغير السياسة الخارجية التركية، وأن تحل علاقات حسن الجوار والتعاون محل الخلافات التصعيد والتوتر، وهذا يفترض بتركيا أن تقدم لهم المزيد من الخطوات التي تدعم اتجاهها نحو التفاهم والحوار، ودعم أقوالها بالأفعال، وهذا ما عبّر عنه السيد الرئيس بشار الأسد يوم الخميس الماضي أثناء استقباله ألكسندر لافرنتييف، المبعوث الخاص للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بحديثه عن اشتداد المعارك السياسية والإعلامية، التي تتطلب اليوم «ثباتاً ووضوحاً أكثر في المواقف السياسية». وعدّ الرئيس الأسد أن هذه اللقاءات لكي «تكون مثمرة» لا بدَّ لها من الوصول إلى الأهداف والنتائج الملموسة التي تريدها سورية، و«أن تنطلق من الثوابت والمبادئ الوطنية للدولة والشعب المبنية على إنهاء الاحتلال ووقف دعم الإرهاب».