«حنين» فرنسي لماضٍ استعماري
تشرين- عبد المنعم علي عيسى:
شكّل خروج فرنسا من الجزائر مطلع الستينيات من القرن المنصرم حدثاً ذا أبعاد جيوسياسية كانت له تداعياته على امتداد القارة السمراء التي كانت في صلب اهتمامات السياسة الفرنسية التي تلمست مناخاً عالمياً بدا من المستحيل معه استمرار الإطباق على مقدرات الشعوب بشكل مباشر، الأمر الذي دعا «الدولة العميقة» الفرنسية للتجريب في لبوسات أخرى تتناسب مع ذلك المناخ، شأنها شأن أي قوة إذا ما هزمت بوسيلة فإنها تحاول بوسائل أخرى، وفي ذاك سنشهد مثالاً صارخاً تمثل في تأسيس «الفرنكفونية» التي عنت ظاهرياً رابطة للشعوب الناطقة بالفرنسية، لكنها في العمق كانت ذراعاً لإبقاء التمدد الفرنسي الخارجي الذي أصيبت أنسجته بالتهتك بعيد عدوان السويس 1956 ثم كانت إصابته في مقتل بعد انتصار الثورة الجزائرية العام 1962، لكن الجزائر بقيت عقدة العقد في علاقة فرنسا بالقارة الإفريقية، وعبر العلاقة معها كانت تتحدد الكثير من المعطيات وتغلق، أو تنفتحالكثير من الأبواب أمام التمددات المأمولة لباريس بلبوساتها الجديدة، وتلك مسألة لها علاقة بتاريخ مديد طال أمده لـ 130 عاماً، تخللتها آلام كبرى و محاولات لطمس الهوية التي كانت استعادتها بأكلاف باهظة، ثم إلى كم من المجازر ظل الكثير منها مغيباً، ولربما لم يتكشف منها سوى التي حدثت فقط ما بين أعوام 1954 – 1962 التي شهدت الثورة الجزائرية الكبرى التي وضعت ما يجري في الجزائر تحت مجهر ما يسمى «الرأي العام العالمي» الذي ظل الغرب وكيلاً حصرياً له، ولذاك اعتبارية أكبر عندما يصبح حتى الغرب الذي يملك وكالة حصرية بالرأي العام سابق الذكر، غير قادر على التغاضي عما تقترفه «بلاد النور» كما يحلو لهؤلاء تسميتها.
في العام 2021 كلف الرئيس الجزائري عبد المجيد بوتبون لجنة مختصة بالتاريخ للتواصل مع نظائر فرنسية لها بغرض وضع أسس وقواعد لتناول «ملف الذاكرة» الذي يمثل العقدة الأهم التي تعترض مسار المصالحة الجزائرية الفرنسية، لكن ذلك المسار توقف بعد اعتراض الجزائر على المسودة الفرنسية التي عملت «على طمس ممارسات الاستعمار كجريمة ضد الإنسانية» وفقاً للتوصيف الذي استخدمته وزارة الخارجية الجزائرية بعد اطلاعها على تلك المسودة، الأمر الذي استدعى صدور بيان من الأليزيه كان مفاده أن مسألة «إعلان التوبة» التي يطالب بها الجزائريون مستبعدة تماماً.
تشترط الجزائر، وفي الأمر ما يدعو إليه، تقديم باريس اعترافاً صريحاً، وعلنيا، بأنها ارتكبت جرائم فظيعة إبان احتلالها الجزائر، ثم تطالب بوجوب تقديمها لاعتذار علني عن تلك الجرائم يشكل مقدمة قانونية للمطالبة بدفع تعويضات تقرها محاكم دولية مختصة، لكن باريس ترى في ذلك طريقاً لـ«الإدانة» القانونية التي سعى المتعاقبون على حكم الأليزيه إلى تحاشيها تجنباً لعواقب و تداعيات يمكن أن تتركها على الأوساط السياسية الفرنسية، ناهيك بالحسابات الانتخابية التي تدخل في صلب السياسات التي يعتمدها هؤلاء خصوصاً القادمين من تيار اليمين، بشتى تياراته، من دون أن يعني ذلك أن القادمين من اليسار هم بعيدون عن تلك الحسابات، لكن ما يميز مواقف هذا الأخير هو أن قادته هم أكثر قدرة على إعطاء مواقفهم تلاوين تكسبها، من حيث الوقع، صبغات تبدو منسجمة أكثر مع المزاج العام السائد الذي بات يميل نحو مفاهيم الحقائق والحقوق.
في خلفية الصورة تبرز دوافع كامنة عند الفرنسيين هي التي تحول ما بين هؤلاء وبين تلبية مطالب الجزائريين التي يستحيل من دونها إتمام المصالحة المفترضة، وهي في مجملها أقرب لأن تكون نوعاً من «الحنين» للإبقاء على «الماضي الاستعماري»، ولربما كانت الشواهد على ذلك كثيرة، لكن أبرزها هو تمسك باريس إلى الآن بإحياء يوم «الحركي»، والحركي هم الجزائريون الذي تعاونوا مع الاحتلال ثم غادروا معه يوم غادر، وباريس إلى اليوم تطالب بتسهيل زيارة هؤلاء لـ«بلادهم»، الأمر الذي ترفضه الجزائر بشدة، ومنها، أي من تلك الشواهد، إصرار باريس على الاحتفال بالمجازر التي ارتكبها الجيش الفرنسي شهر تشرين أول من العام 1961.
لكن برغم ذلك تبقى المصالحة الفرنسية مع الجزائر إحدى احتياجات السياسة الفرنسية المتعثرة في القارة السمراء التي فقدت باريس الكثير من مرتكزاتها فيها بالتزامن مع حال النهوض الذي سجلته شعوب العديد من بلدانها.