تَخلٍّ بالطولِ و«العرض»..!!

لعلّ أخطرَ مايمكن أن تؤول إليه نتائجُ الحروبِ وأزماتُ الشعوب هو الانحدارُ في منزلق التخلّي.. كم يبدو هذا المصطلحُ بغيضاً.. بغيضاً عندما يعاندُ، ويتحدّى وجاهياً القضايا المصيريّةَ الكبرى التي تكون على شاكلة أو من طراز «وطن» بكل ما يحمله، وينطوي عليه مفهوم «الوطن» من معانٍ ودلالات.
وعلى الرغم من أنّ مدارسَ التحليل النفسيّ لم تتطرّق إلى حيثيّة التخلّي عن الأوطان في حالات الهيجان الوجداني السلبي التي تنتجها، وتتمخضُ عنها الحروبُ.. فإنّ غُرف الدعاية السوداء ليست بغافلةٍ، إذ إنها طوّرت مهاراتها ببراعةٍ لخلق بيئات المواقف «الرخوة» والتوطئة لمثل هذه الحالات التي لا ترجمة لها إلا بكلمة «هزيمة».. هزيمة في أرباع الساعات الأخيرة من جولاتِ الصراعِ.. وكم تبدو كثيرةً اليومَ الحاملاتُ المجانيّةُ لرسائل الإحباط ومقدّمات الهروب أو على الأقل الانكفاء.. حتى إنّ منصّات «الميديا» باتت اليومَ أشد رعباً من حاملاتِ الطائرات الأميركيّة التي تُرابط قبالة الشواطئ لترويع الشعوب الآمنة، وزعزعة استقرارها.
نحنُ نعترفُ بأننّا نخشى فعلاً من مُعايرة حجم التخلّي وأبعاد النفاذ الحقيقي لرسائل الحربِ الجديدة هذه إلى عُمقنا، نحنُ السوريينَ، أمام هذا الدفقِ الهائل من الرياح الهوجاء الصفراء الآتية من جهات الدنيا الأربع.
وما يقلقُ فعلاً هو أن تجتاحَ بعضَنا لوثةُ التحفّظ وتجنّب الإشارة إلى أيّ ملامح إيجابيّة في هذا البلد، خشيةَ «لسع» نشطاء منصّات إطلاق سهام «التنمّر» ومحاولات النيل ممن «تجرّأ» وقارب حقائقَ غابت خلف غبارهذه الحرب القذرة على بلدنا، وتالياً نترك المهمة لإعلام ما أو سياسيّ غير سوريّ ليلامسَ حقائقَ كان علينا «نحنُ» مقاربتَها، لا أن نكتفي فقط بالاستماع وتداول شهادات الآخرين على وسائل تواصلنا الاجتماعي بحياديّةٍ مُريبةٍ.
لكنّنا نعترفُ أيضاً بأن جرعات السوداويّة المصنّعة والمعلّبة خصيصاً لنا، لم تنلْ من طيفٍ واسعٍ في قوام هذا الشعب، إذ لم يسمحوا لتيار التخلّي هذا بالتسلّل إلى نفوسهم، لأن المسألةَ باتت بعد سنواتٍ من المعاناة مسألةَ وطنٍ، حيثُ لا خلاف في وجهات النظر، ولا تسجيل مواقف، ولا اصطفافات كرويّة «في زمن المونديالات» بين مصفّق وشاجبٍ.
وهناك على تُخوم المنافحة والدفاع عن الأرض والجغرافيّا السوريّة، مَنْ يفترشون الترابَ، ويلتحفون السماء، ليس حبّاً ولا شغفاً برياضات التحمّل ومقارعة مزاجِ الطبيعة، بل لأنهم اقتنعوا بإسقاطات مفهومٍ لا حسّي اسمهُ «وطن».
وفي هذا البلد ثمةُ مَنْ قرأ التاريخ بتمعّن، وأدرك أن شعوب الدنيا خاضت حروباً مديدة لكنها لم تصبْ بـ«متلازمة التخلّي» جاعتْ.. نالَ منها البردُ.. فتكتْ بها الأمراض.. لكنها لم تكفر بأوطانها.. نحنُ لا نتحدث عن شعوب آسيا وأميركا الجنوبية فحسب، بل شعوب أوروبا بشرقها وغربها قاطبةً ، وقد وثّقت تجاربها المريرة عبر التاريخ بأعمالٍ درامية كانت بالفعل دروساً مدفوعةَ الثمن.
لابأس في أن يتخلّى المتخلّون في صكوك البيوع العقارية وبوالص التأمين والصفقات التجارية والعواطف والغراميات الشخصيّة.. لكنّ الوطنَ ليس صكّاً ولا بوليصةً ولا صفقةً.
لن نمعنَ في التفصيل.. لكننّا نعلمُ أن الطاقةَ السلبيّة تعطّلُ الحواسَ، وتشتّت المداركَ، وتجمّد العقول.. فأوقفوا هذا الضخَّ السلبيّ، فقد أضعتم رشدَنا.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار