في غابة لوحة مفعمة بالرموز ناظم حمدان.. الناجي من المُحترف المُتماثل
تشرين-علي الرّاعي:
بهدوءٍ تام كمن يمشي على رؤوس أصابعه؛ يُقدّم الفنان التشكيلي ناظم حمدان نتاجه الإبداعي، مُحققاً بذلك ما عجز عنه الكثيرون، وهو الافتراق عن المُحترف المتماثل الذي يكاد يكون نتاج مشغلٍ واحد لفرط التشابه في أحيانٍ كثيرة.. فلا جعجعة إعلامية تفقده هدوءه، ولا احتفالات عارمة ولا استعراضات تسويقية تُخرجه من سكينته، وإنما يشتغل بثقة المبدع المُتمكن من أدواته، وكما يليقُ بنتاجٍ إبداعي مختلف..
وسنتفاجأ، أو سيتفاجأ المُشاهد لأعماله، أنّ أدوات ناظم حمدان التي حقق من خلالها هذا النتاج التشكيلي المُختلف ليست كثيرة، وإنما هي بالأقل الممكن من الألوان، وحتى بشواغله الفكرية والجمالية التي كثفها لتصير عالماً من البحث والجمال، وهي في حدِّ ذاتها تُشكّلُ مفارقة، بمعنى أن تخلق من القلة كثرة، ذلك استطاع بهذا (القليل) أن يُقدّم نتاجاً مفعماً بالجماليات، ولوحة عامرة بالكثير.. والأهم أنه جاء مُفارقاً لما هو متوفر بكثرة في المشهد التشكيلي السوري.
ألوانٌ مُحددة
فلجهة الألوان؛ فأرى أن ثمة تحدياً في عمارة اللوحة اللونية عند الفنان حمدان، سواء لصراحته – لصراحة اللون – ولعدد الألوان التي تشدّه في كلِّ مرة، وليس في لوحة واحدة.. بمعنى أن اللون، سيُشكل أحد ملامح أسلوبه في بناء اللوحة، لا يُغيره أو يتخلى عنه في مختلف نتاجه التشكيلي، وهو هنا (أحبار ومعادن-الحبر الصيني على وجه التحديد)، هذا إذا استطعنا أن نصف الأحبار بأنها ألوان حقاً إلا من باب (المجاز) الذي يخلقه الفنان التشكيلي على بياض لوحته.
فرغم إصرار حمدان على إملاء كامل فضاء بياض لوحته بالألوان الصريحة، أو قل لونين لا ثالث لهما غير الأبيض مع تدرجاتهم، والذي يصر على تجاورها، وليس على تمازجها، – لا أعرف مدى إمكانية دمح الأحبار ومزجها- غير أن التكوينات التي حصل الفنان عليها من خلال لعبته التلوينية هذه، كانت حمّالة أوجه، وتوغل في المواربة، المواربة التي سنجدها غواية ناظم حمدان ولعبته الفنية على أكثر من مستوى.
هكذا يفرد ناظم حمدان أحبار ومعادن اللون الأسود وتدرجاته، واللون البني وتدرجاته الصرف، وهو يكوّن بتلك الألوان تكاوينه التشكيلية كمن ينحت بإزميل أكثر من أن (يفرد)، وإذا ما أردت التحديد أكثر فعاى الأغلب يُعطي إحساس الحفر أكثر من أي فن أو تقنية أخرى، أي فن الغرافيك.. وهو هنا وبصراحة اللون ووضوحه فإنه يُقدم موقفاً, هو أقرب إلى قول شيءٍ ما, أقرب إلى رفض, أما في المزج, فأرى أنّ ثمة هروباً في مثل هذه الحالة اللونية، غير أن هذا الشغف اللوني، أو كما أسميه، «الشبق» اللوني – إن جازت التسمية-، كانت ثمة غواية بتجاور الألوان بشيءٍ ما يشبه الاشتهاء، ويدخلنا في طلب القصي والبعيد، والذي يمنح ضوءاً ما, هذا الضوء يوفر للوحة أن تترك أثراً مديداً، وتقيم علاقة طويلة مع ذاكرة المتلقي, تتشابك مع انفعالاتهم الداخلية, لأجل حالة عامة, وتبتعد قدر الإمكان عن المألوف.
مواربة شعرية
أقول رغم شدة وضوح ألوان حمدان وصراحتها، غير أنه سعى، وبلا هوادة صوب مواربة شعرية، في تشكيل نصه البصري المخاتل، تماماً كقصيدة نثر معاصرة، أو قل كـ(قصة قصيرة جداً).. حيث للمفردات انزياحاتها التي تخرجها من سياقها الذي عُرفت من خلاله، لتقوم بمهمة جمالية مغايرة، فقد مزج بين عدد من الاتجاهات الفنية في عمارة اللوحة، رغم تركيزه الشديد على (سوريالية) خاصة جداً، حتى إنه يبدو كآخر السورياليين في الساحة التشكيلية السورية، وكأنه يُشكّل على التضاد مع ما سعى إليه في صراحة الألوان، فأخذ من التجريد الفضاء اللوني كخلفية للدراما التي تحكيها مفردات اللوحة الأخرى من خطوط، و..تكاوين، وهو في شغله الفني واضح الخطوط أيضاً وواضح التكوين، أو التشخيص والتجسيد، كلُّ ذلك (الوضوح) الذي يستثمره لخدمة موقفه الفني – الإنساني.. ذلك أنّ فن حمدان ليس للمتعة فقط، وليس حالة بصرية جمالية صرفاً، وإنما يغلب عليها همّ إنساني كبير، وكان حامل كل هذه القضية المرأة التي قدمها بعشرات التجسيدات، لتقول من خلال تلك التكوينات مختلف شواغله الإنسانية.
تكوينات تذهبُ بعيداً باتجاهات سريالية تارةً، وحيناً صوب أحاسيس كرتونية، وحتى كاريكاتيرية، وهو ما يمنح المُتلقي أكثر من قراءة للعمل الفني، وذلك لأن مع كل تأمل جديد ستقرأ تكويناً مختلفاً، أو تكويناً جديداً حتى تكاد تكاوين اللوحة تُشكّل بمنجزها وحده معرضاً تشكيلياً، فما بالك إذا أضفنا لكل ما تقدم حالة (الرمز) التي يشتغل عليها الفنان حدّ الشغف، والتي تزيد في غنى اللوحة، وكأن ناظم حمدان وبالمخاتلة التي اشتغل عليها أي «خديعة» حكاية (القلة)، في اللون والشواغل، وكأنه «يُناكد» النفري، ويقول له لا تخشَ من «ضيق العبارة» مهما اتسعت الفكرة، أو ربما هو من القلة الذين فهموا مقولة النفري – ربما- كما قصدها النفري تماماً، وهي عندما تتسع الفكرة، عليكم بالمجاز والرمز وغير ذلك من البلاغة.
نساء تنزلق وتتلوى ومع إصراره على اللون الصرف الخالص، كانت إثارة الألوان تماماً كمشاهد الرسوم المتحركة، وأخطبوطيتها، حيث تبدو اللوحة مشاهد ملونة لكائنات أنثوية غائمة الرأس، ليس واضحاً من «أنوثتها» غير الأرداف، وأحياناً النهود، وفي بعض الأحيان يكاد يتوارى كامل الجذع، بينما الرأس يتقزم، وقد يختفي، وأجساد مطاطية تتلوى، تنزلق، أو تنسحب من حالات كابوسية مرعبة، وثمة مسرحة تشي بحركة، هي قاب قوسين أو أدنى لأن تبدأ، أو هي توقفت للتو.. وهو ما يُشكّل تحدياً آخر في لوحة الفنان ناظم حمدان، وربما هو حامل اللوحة وشاغلها الأساس، وهو (المرأة)، سواء كحالة بحثية وهمّ اجتماعي، أو كحالة بصرية لونية جمالية.. في كل تلك التكوينات الجسدية المُحوطة بغابة من القيود والسلاسل، والتوابيت، والموت من كلِّ جهاتها، وبالخفافيش والأفاعي والذئاب التي لا ترى في المرأة غير ما أشار له الفنان، فلا أحد ينظر لرأسها لوعيها أو عقلها ،أليست هي «ناقصة عقل» حسب عرف ومعتقدات الكثيرين؟!
في«شبقه» اللوني يسعى حمدان لأكثر من قراءة وذلك لكل حركة، أو انحناءة، أو التفاف في خطوطه، هذه الخطوط التي تبدو لوهلة أنها هندسية، غير أن في التأمل التالي، سيظهر أن الهندسة السابقة، ليست أكثر من سراب أيضاً، أو هي من لعبات المواربة التي يتقنها جيداً، وربما هنا أكثر ألعاب هذا الفنان مخاتلة، فالذي بدا للتو هندسياً، يبدو من منظور آخر مفرطاً بالحنو والانحناء، والالتفاف، والتكور، والاحتضان، أي إن «الصراحة» التي ادعاها في ألوانه الصرف والقليلة، كانت كحالة جذب عفوية للوقوع في مواربة لونية ماكرة، الأمر الذي منح تراكيب من القراءات التشخيصية والتجسيدية لكل بؤرة في اللوحة، بمعنى أنّى اتجهت حركة النظر لديك، تستطيع قراءة ما، يمكن لك أن تؤولها كما يحلو لك، وكما تستطيع قراءة كل بؤرة منفصلة، كذلك بإمكان القراءة البانورامية الشاملة لحركية الألوان والخطوط، سواء في انقطاع الخطوط، أو في تواصلها، كما في تجاور الألوان سواء كان انسجاماً، أم تضاداً، وكأن ثمة متاهة في هذا التشابك التشكيلي، حيث الأجزاء تتكامل، بالمتواليات، والمتوالدات، حتى ليخيّل للمتلقي إن بإمكان الفنان أن يمدَّ بلوحته إلى ما لانهاية، تماماً على طريقة الجداريات الملحمية الطويلة، حتى أن ثمة الكثير من التزييني، والزخرفي، ولامتناهيات اللوحة الزخرفية الهندسية يُفعم من خلالها لوحته التي لا تلوي على سكون.