جوعٌ وغصَّة و ..«عصَّة قبر»؟!
لم يكن إعلان نهاية زمن الغذاء الرخيص منذ عقد ونصف من الزمن، تحولاً اقتصادياً مبنياً على استحقاقات راهنة حينها، بل لعلّه إنذار من مغبة نهج سياسي جديد خرج للتو من مخابر الدراسات الأميركية، يقضي بالتناول الاقتصادي للملفات السياسية وليس العكس.
بالأمس كان اليوم العالمي للغذاء.. وبمناسبته قفزت إلى ذهننا تجليات الحقيقة المرّة، أفول زمن الغذاء الرخيص، “الكارثة” المؤجلة التي جرى تسويق نذرها بالتزامن مع السعي لإيجاد بدائل حيوية للنفط، و كان محصول الذرة المرشح رقم واحد لاستخراج الإيثانول كمصدر طاقة بديل.. وهو المحصول الذي عوّلت عليه مراكز البحث والقرار الأميركية ليكون الورقة الرابحة التي تلّوح بها متحدية العالم.
وبالفعل تم تشييد مجموعة من أبراج الصلب والأنابيب الممتدة لستة عشر طابقاً في ولاية كنساس، بهيئة مصنع لإنتاج الإيثانول ليكون بداية ثورة الوقود الجديد.. ويقوم على تصنيع حبوب الذرة وحطبها.
لكن القمح أيضاً مادة أولية للوقود الجديد، وكذلك معظم الأغذية الطبيعية النشوية… ما يعني أن غذاء البشر بات في خطر مباشر، والجوع القادم ليس بسبب تراجع سخاء الطبيعة، بل بفعل هندسات شيطانية نشطت باتجاه الاستحواذ على أخطر الحيثيات الموجعة المؤثرة في مصائر الشعوب .
لكن المريب أن كلَّ وسائل الإعلام العالمية انكفأت تماماً عن التعاطي مع أي تفاصيل جديدة عن الخطر القادم من أميركا والسيناريوهات الخرساء الجاري إعدادها لمشهد المجاعة القادمة.
كما تم إسكات كلِّ مراكز الأبحاث الطبية عن الحديث بشأن حمى التعديل الوراثي والتلاعب بجينات البذار، وإغراق العالم ببذور “الإنبات لمرة واحدة”، وها هي أميركا تكاد وبعدها أوروبا، تمسي المصدر شبه الوحيد لبذار كل ما يقتات به الإنسان والحيوان، وعلى الأرجح لن يتأخر كثيراً إعلان تفاصيل السيناريو الأسود الوشيك من دون تردد أو خجل، لكن ربما ليس بعد، ريثما تفرغ كل البنوك الوراثية النباتية في دول العالم من محتوياتها، أما من ليس لديهم بنوك ولا بذار ولا أفكار فهؤلاء ربما دخلوا مسبقاً في حالة الموت السريري الزراعي، أي باختصار؛ باتوا في حالة احتضار اقتصادي حقيقي..ولنا أن نتخيل أن تكون لدينا أرض وماء.. لكن لا سبيل إلى زراعتها ولا خيار أمامنا إلّا استيراد البذار أو المنتج الجاهز.
كل ما سبق يتوج بسيناريو آخر وهو بدعة الغذاء الصنعي..أي التقاط شعوب العالم من بطونها وهي نقطة الضعف التي تستحكم بكل مخلوق يدب على ظهر هذا الكوكب…إنه السيطرة الحقيقية على العالم، بلا قتال ولا غزو ولا حاملات طائرات ولا دبابات.
بعضهم في هذا العالم بدأ يحتاط ويتحوط بصمت، وبعضهم تيقظ متأخراً.. والبقية ما زالت تلهو باتهام السماء والإمعان في التأويلات الخاطئة لمفهوم القدر.
كم كان مؤلماً لكل سوري تابع التقرير الذي بثته إحدى محطّات التلفزة العالمية الكبرى بعنوان ” القمح السوري ينقذ المحصول الأميركي”.. والرواية تتحدّث عن جائحة ضربت محصول القمح الأميركي ولم ينجُ منها إلّا الصنف السوري ” البلدي” الذي حصل عليه الأمريكان – وفقاً للتقرير- من مركز بحثي غربي حلب، والمقصود “إيكاردا” طبعاً.
الأمريكان تلاعبوا بجينات كل الأصناف الزراعية ونشروها في هذا العالم، ونحن لسنا استثناء، لكنهم ينقذون محاصيلهم بأصنافٍ منهوبة من هنا وهناك..وبالنسبة للقمح كنا أصحاب النصيب هذه المرّة.. ؟
بمناسبة اليوم الغذاء العالمي.. يراودنا الكثير من التساؤلات المحرجة ربما أولها: أين بات صنف القمح السوري ولماذا فرّطنا به واستبدلناه؟..وثاني التساؤلات: هل لدينا بنك وراثي نحتفظ فيه ببذار مختلف أنواع المحاصيل التي كانت تُحفظ تقليدياً من قبل الفلاحين في بيوتهم وهي سرّ ما تبقى من أمننا الغذائي؟..والتساؤل الثالث هو: كيف سنحصّن أنفسنا من إستراتيجيات التجويع الجاري إنفاذها بخبث وهدوء؟…
متيقّظون نحن من الأميركي بأفعاله الظاهرة، وهذا أكيد، لكنْ ثمة تكنيك خطير يعمل عليه في نهج الاستهداف، أبعد من مجرّد قواعد و إنزالات وميكانيك عسكري متطور، فقد تكون الأخيرة مجرد محاولات مستمرة لإشغال الجميع عمّا هو قادم.
نحن “نأكل مما نزرع ونلبس مما نصنع” هكذا كنا ويجب أن نبقى، كما يجب أن نكون رابحين في حرب سلاحها الغذاء وليس العتاد.