بعد سنوات عديدة على التدخل التركي السافر في الأزمة السورية، وإذكاء نارها بكل الوسائل، تأتي تصريحات المسؤولين الأتراك التي تدعو إلى التفاوض مع سورية، وضرورة التوصل إلى حلّ سياسي، لتثير عاصفة من الجدل لدى الأوساط السياسية، يرافقها، حديث وتساؤل بآن معاً، عن مدى التغير في الإستراتيجية التركية، وهذه الانعطافة، وانعكاسها على الملف السوري.
هذه التصريحات لابدّ من قراءتها في ظل جملة من المتغيرات الدولية والإقليمية، يرافقها توجه من النظام التركي لإعادة ترتيب ملفاته الخارجية، لدخول الانتخابات الرئاسية المقبلة على هذا الجناح.
لم يكن ممكناً من النظام التركي، المضي في سياسة التأجيج، وخاصة بعد ما تحقق على الأرض السورية، والمواقف الروسية- الإيرانية، لتأتي الأزمة الأوكرانية فيما بعد.
هذه الأزمة التي تركت ارتباكاً واضحاً، لدى الأطراف الإقليمية والدولية التي كانت في الأساس جزءاً مهماً لتنفيذ السياسات الأميركية، وخصوصاً بعدما ظهرت صلابة الموقف الروسي المغطى بعلاقات اقتصادية مع الصين والهند وإيران كسياسات بديلة من الشراكة مع الدول الغربية، ليغيب من موسكو مصطلح “شركاؤنا الغربيون”، ما دفع هذه الدول إلى إعادة حساباتها السياسية، وخصوصاً القيادة السياسية في تركيا.
لقد حاول النظام التركي الدخول على الخط الساخن في الأزمة الأوكرانية، وعمل العديد من المحاولات لاستثمار الموقع الجيوسياسي لبلاده في الساحة الأوكرانية، من خلال مساعدة كييف بطائرات البيرقدار المسيرة، ودورها الفاعل في ساحة المواجهة ضد روسيا، أو باستمرار العلاقة الجيدة مع روسيا اقتصادياً، أو كوسيط مقبول بين موسكو وكييف، وبين الشرق والغرب .
لكن لم يطل الوقت لوصول أردوغان إلى إدراك واضح، مفاده أن خيارات لعبة التوازن لا يمكنها الاستمرار، بفعل الإصرار الروسي على الانتصار، إضافةً إلى عدم ثقته بالغرب الذي انقلب عليه، بعد محاولة الانقلاب عام 2016.
صلابة المحور الآسيوي للدول الناهضة (الصين وروسيا والهند وإيران)، في مقابل المحور الغربي الذي بدأت تظهر عليه تداعيات الحرب في أوكرانيا، بتضعضع أركانه المختلفة في الموقف من الحرب والعقوبات على روسيا، كلّ ذلك دفع أردوغان إلى إعادة النظر بالحرب على سورية من زاوية الرؤية الآسيوية، وليس الغربية، وخصوصاً بعد الضغوط الروسية- الإيرانية عليه في قمة طهران الثلاثية، والعمل على التخلص من عبء ملف اللاجئين السوريين الضاغط داخل تركيا، إضافة إلى الإر*ها*بيين الأجانب (إيغور وأوزبك وشيشان وغيرهم)، وأغلبهم من القوميات التركية.
يمكن قراءة التأثير الروسي بوضوح، من خلال تشجيع موسكو لأنقرة، وتجسيد هذا التوجه الروسي على الأرض، هذا ما أظهرته أنقرة من تعاون في العمليات الناجحة للطيران الروسي والسوري خلال الشهرين الماضيين، وسماح سورية لأهالي معرة النعمان وربما سراقب لاحقاً، من النازحين في مناطق سيطرة الإر*ها*بيين ومن خارج البلاد بالعودة إلى مناطقهم التي نزحوا منها بعد افتتاح الجهات المختصة السورية في ٧ الشهر الماضي مركز مصالحة في مدينة خان شيخون بريف إدلب الجنوبي لتسوية أوضاع أبناء المحافظة من المدنيين والعسكريين المقيمين خارج مناطق سيطرة الحكومة السورية، بمثابة بادرة حسن نية من دمشق، مقابل توجيه نظام أردوغان مرتزقته لإعادة افتتاح ٣ معابر في إدلب وحلب لاحقاً، تصل مناطق الحكومة السورية مع مناطق هيمنة مرتزقة أردوغان.
كل هذا مؤشرات إيجابية ورسائل من الطرفين السوري والتركي، لكن من دون أن يعني هذا أن المسائل الخلافية الكبيرة قد تم حلها، فهذه تحتاج زمناً ليس بقليل، لكن هذا لا يعني ألّا نرى خطوات على الأرض.
مهما يكن من أمر هذه الانعطافة التركية، فإن الأمور ستبقى رهن انتظار نتائج الانتخابات الرئاسية التركية في المرحلة الأولى، ونتائج الحرب في أوكرانيا التي ستدفع أنقرة إلى خسارة لعبة التوازن بين الغرب والشرق وتحديد اصطفافها النهائي، بما ينعكس على مستقبل سورية الذي سيكون غالباً متعلقاً بالمحور الآسيوي الصاعد.
شوكت ابو فخر
40 المشاركات