العطاس السياسي وزكام الفقراء؟!!
لا تعرف العلاقات الدولية الوجدانيات.. وإن اتسمت السياسية منها أحياناً بنفحة قريبة من العاطفة، يبقى للاقتصاد «قلبٌ ميتٌ..» بعضهم يتهمه بالأنانية والإفراط بالنفعية، ومنظِّروه القدماء والجدد عززوا التهمة بأن خلت رؤاهم من أي بُعد مزاجي، إلّا بعض المحاولات الاستعراضية لترسيخ مصطلح «الاقتصاد العاطفي»، لكن الأخير لم يتعدَّ مكاتب الإدارة وتحفيز الكوادر البشرية.. لذا يبقى الاقتصاد الكلّي كنظرية وتطبيق بلا عواطف و«جلفاً» و غير مرن.
من هنا لا تبدو غريبة أبداً.. بقايا صور براعة الفصل بين السياسة والاقتصاد التي وثّقها تاريخ النزاعات السياسية، فالقطيعة الاقتصادية ليست عُرفاً عالمياً تقليدياً، وإن حصلت تستثني البُعد الإنساني، وكأن «القطيعة الإنسانية» عرفٌ خاصٌ بمنطقتنا، ولعلّها لوثة أميركية معلّبة ومصنّعة خصيصاً لنا، تشبه الطرود المفخخة المعدّة لنشر الأوبئة التي اكتشف العالم أنها أميركية المنشأ..
الآن لنبقَ في المضمار الإقليمي الضيّق.. فإسقاطات مثل هذا السرد على أرضنا باتت كثيفة، والمشهد حافل بتفاصيل ليست هامشيّة مطلقاً في حكاية السوريين مع الحصار ومحاولات التجويع المعلنة، ولا تختلف بتاتاً عن «خسّة الضباع» وتتعلق بعمق عمق يوميات السوريين؛ دواء وغذاء وسلع باتت إكسيراً لمحتاجيها.
وقد يكون في مثال التحويلات النقدية من الخارج، صورة ساخطة لواقع التعاطي مع الملف السوري، إذ يعلم الجميع أنها تحويلات تشبه مفهوم «الإغاثة»، أغلبها يأتي لأسر سورية من ابن أو قريب، وليست تحويلات تجارية ناتجة عن صفقات كبرى، لكنها تخضع لحالة ضغط هائلة تكفلت بـ«سحب دسمها» ولا يصل سنت واحد منها «كاشاً» أي بنكنوتاً، وإنما مستند تتكفل الحكومة بتنفيذه وتحويله إلى ليرة سورية.
ومن يقرأ أن قيم التحويلات إلى سورية قد تصل إلى 150 أو 200 مليون دولار شهرياً، سيظن أن الأمور بخير، لأن الرقم يعني –افتراضاً- أن القطع الأجنبي يصل ويُنفق في الأسواق السورية، وهو بحدود 2 مليار دولار في السنة، لكن المستفيد فعلاً هو بلدان الجوار السوري ولاسيما لبنان والأردن ثم تركيا التي تفوز بالحصة الأكبر..!!
الواقع أن في سِفر الحصار على سورية مرارة تكفي للتوزيع على إقليم الشرق الأوسط برمته، وهو بكل تفاصيله المعلنة والمضمرة يستفز ألف سؤال وسؤال حول مواقف «الأشقاء» في المضمار العربي، ودورهم الاقتصادي – الإنساني لا السياسي، في ملف المعاناة السورية؟؟.. بما أننا اتفقنا على أن الاقتصاد يعتمد البراغماتية نهجاً أصيلاً ومتأصلاً.
بعضهم خبراء في تحريك الملفات من تحت الطاولة عندما تقتضي مصالحهم ذلك، وثمة شواهد كثيرة على الاستجابة السورية لمصالحهم؛ عندما فرضت قرارات الحصار على سورية «قطع حتى الأكسجين عن بعضهم» كتحصيل حاصل بحكم «ديكتاتورية الجغرافيا»، فهل هم غير قادرين فعلاً على التدخل إنسانياً ومن تحت الطاولة لتسهيل خلاص «أشقائهم» ولو بالحدّ الأدنى من معاناتهم..؟
نتحدث هنا عن أدوار إنسانية لا سياسية ولا اقتصادية بحت، لأننا ندرك كثافة الخلط في الأوراق على خلفية إيعازات صارمة، لكننا نتحدث عن الملفات التي من الممكن أن تُدار من تحت الطاولة، وهي رائجة كثيرة عندما يتضادّ الاقتصاد مع السياسة..
رغم أن الحرب بين الولايات المتحدة والصين تجارية- اقتصادية، لم نسمع عن محاولات «قطع حتى الهواء» جرت رغم حدّة الصراع، والصين مازالت هي المستثمر رقم واحد في أذونات وسندات الخزانة الأميركية، ولم نسمع في ضروب الحرب الخرساء بين البلدين عن تفاصيل محاولات حصار قذرة كالتي يرغم الأميركي بعض دول المضمار العربي على الإذعان لها ضدّ سورية، والغريب أنه يلقى استجابات سريعة، ويتحوّل بعضهم إلى ضباع تنهش جسد الطريدة وهي حيّة…
في السياسة دوماً هناك ما يُعرف بـ «خط الرجعة» أو الأبواب المواربة التي تبقى جاهزة للاستجابة للتحولات والتبدلات، فالسياسة لعبة تتفاوت بين الجفاء والقطيعة، وإعلان الحرب تحت عنوان فن الممكن، وهي خاضعة لتبدلات المواقف والظروف الدولية، لكن عندما يتصل الأمر بالجانب الإنساني يُمسي اندمال الجروح العميقة بطيئاً.