أين تبخرت المليارات ؟!!

لا نظن أنه من الصعب تعقب الارتكاسات التنموية في المناطق التي افتقر سكانها للمبادرات، سواء بطلب الخدمات أو التأسيس لمشروعات أو تبني مشروعات أخرى من الفكرة إلى المفتاح ، وثمة مناطق عرفناها جميعاً بأنها تعاني حالة قصور تنموي مقلق.. وهذه تهمة غالباً ما تكون مثار تقاذف بين المواطن والمؤسسات التنفيذية..هكذا هي اليوم، كما كانت بالأمس، وربما ستبقى في المستقبل.
الأمثلة ليست قليلة وتتفاوت وضوحاً بين مدينة وأخرى في قطاع إداري واحد.. إلّا أن الأمثلة الصارخة التي يمكن الإشارة إليها تتخذ بعداً إقليميا..المثال الراهن حلب..والمثال السابق منطقة الجزيرة بمحافظاتها الثلاث.
في حلب نبدو أمام مشهد مدهش فعلاً..فالاهتمام الذي حظيت به المدينة والضخ المالي والتركيز التنموي من الدولة بكل مؤسساتها، استحق الثناء وانحناءة احترام من كل سوري..وما قدمته الدولة يلامس عتبة الطاقة القصوى لبلد يخوض حرباً ويعاني حالة حصار مطبق، لكنه توطئة لتمكين من يشاء من متمولي المحافظة لمعاودة الإقلاع بمشروعاتهم المتوقفة وضخ النسغ الجديد في مدينتهم ومناطقهم ومؤسساتهم..لكن كان مريباً أن المدينة شبه خاوية من المبادرات الجديدة لحائزي الثروات من أبنائها، وخصوصاً ممن حزموا حقائب أموالهم وغادروا .. ولم نسمع تصريحاً واحداً يشي بنيات أحد المغادرين بالعودة، رغم أن بعض رجال الأعمال الباقين ممن صمدوا في حلب يصرّون على “التبشير” بعودة وشيكة لمعظم المغادرين.
قبل حلب ومنذ عقود عايشنا جميعاً ما يستحق أن يوصف بـ “لغز التنمية” في الجزيرة السورية..التي يصفها محبو “الغزل الاقتصادي” بأنها خزان وسلة الغذاء السورية..وكانت فاتورة القمح التي تصرفها الدولة للأهالي هناك كل عام أكثر من ٥٠ مليار ليرة، النسبة الأكبر من المبلغ كانت من نصيب محافظات الإنتاج الرئيسة..الحسكة والرقة ودير الزور.. أي 20 % من الموازنة العامة للدولة..في وقت كان الرقم الإجمالي للموازنة بحدود ٢٥٠ ملياراً..لكن متوالية المليارات هذه لم تشفع أبداً بتغيير ملامح المحافظات الثلاث، ولم تبدُ مظاهر الترف المفترض ولا حتى الكفاية على أهلنا هناك..لا مشروع فردي ولا آخر جماعي، ولا حتى مظاهر استعراض شخصي من تلك التي يعشقها الأثرياء..فأين كانت تذهب كل تلك المليارات؟؟!
الآن ولو بكثير من التردد..لا نملك أحياناً إلّا أن نسلّم بمقولة ” ما حكّ جلدك مثل ظفرك”.. وهذا ليس على المستوى الفردي – الشخصي، بل ثمة تقاطعات لهذه المسلّمة في عمل المؤسسات والدول أيضاً، ولعلّنا لن نكون براغماتيين كثيراً فيما لو حاولنا مقاربة المسألة التنموية في سورية، ببعدها المتعلق بالمبادرات الفردية والمجتمعية، فقد يكون هنا في هذه الحيثية مكمن الخلل التنموي الذي نراه كلٌّ من منظوره النسبي.
فالصحيح أن الدولة بخططها وحكوماتها ورجال أعمالها، وأموالها ومواردها وبناها التحتية والفوقية وطبقاتها بالمستويات الثلاثة، هي المسؤولة عن إدارة دفة التنمية و هي من يؤسس لكل متعلقاتها من البذرة حتى “الإنضاج”.. وهذا ما نسمية عادة التنمية المتوازنة.. المفهوم الزئبقي أو الرجراج الذي سيبقى مطرح جدل.. لم يُحسم وربما لن يُحسم بما أن في المسألة أبعاداً مناطقية متفاوتة.
لكن الصحيح أيضاً والذي لا يقبل الجدل، أن من يصنع التنمية في أي منطقة- ريفاً ومدينة- ومن يرعاها ويعززها، هم السكان المحليون ” الأهالي”.. والدولة بمؤسساتها تكون مسهِّلاً ومكمّلاً وداعماً، رغم أن مثل هذا الطرح قد لا يعجب كثيرين ممن مازالوا يؤمنون بأن الدولة ذلك المارد القابع في الفانوس السحري.
تنمية حلب والجزيرة وكل محافظة ومدينة سورية، رهن بمبادرات أهلها ومشاركة المجتمع المحلّي في الاستحقاقات التنموية، حتى لو بالإلحاح في طلب خدمة أو مشروع..من هنا تبدأ التنمية والنماء.
لذا نحن جميعاً بانتظار رجال أعمال محافظة حلب– وفيها الكثير– أن يشمِّروا عن سواعدهم ويفتحوا حقائبهم وصناديق العائدات الدسمة التي جنوها من حلب وليس من مدينة ” 6 أكتوبر” في القاهرة.. فالدولة – كل الدولة– برَّأت ذمتها، والبقية ننتظر منهم أكثر من مجرد التعاطف الوجداني..

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار