المثقف الحالم والمهادن والثائر والمحبط في مسرح ونوس
نضال بشارة
ليس جديداً أن يكون مسرح سعد الله ونوس ضمن الشواغل النقدية للناقدة الدكتورة رشا ناصر العلي، إذ سبق أن قدمت كتاباً بعنوان “الأنساق الثقافية في مسرح ونوس” عن المجلس الأعلى للثقافة في القاهرة، وهي تنحاز لمسرحه بالدّرس، كما قالت، لما يختزنه من فكر وفن، فتطل من نافذة نقدية جديدة، ولأهميته في المسرحين السوري والعربي.
ففي محاضرتها الأولى ضمن نشاط رابطة الخريجين الجامعيين في حمص، قدمت مساهمة نقدية بعنوان “أزمة المثقف في مسرح ونوس” تناولت فيها أربع مسرحيات ، وهي “منمنمات تاريخية”، “سهرة مع أبي خليل القباني”، “يوم من زماننا”، و”الفيل يا ملك الزمان”. رصدت فيها صورة المثقف.
انطلقت برصدها من مفهوم المثقف الذي يمتلك المعرفة والفكرة والقيمة والذي تحققه كمثقف مرتبط بدوره. فتساءلت أولاً: هل استطاع المثقف أن يضطلع بهذا الدور في ظل الحروب والأزمات؟ ووجدت عبر القراءة إجابة من خلال أربعة نماذج: المثقف المهادن الاستسلامي، والمثقف الحالم المنفصل عن الواقع، والمثقف الثائر، والمثقف البائس المحبط. لكن ما يجمعهم في نظرها الاصطدام بالآخر، بالمجتمع، وبالحقيقة. ورأت العلي أن اللافت في تمثل ونوس لصورة المثقف أن التاريخ كان ملهماً له، كما تجلى ، في مسرحية “سهرة مع أبي خليل القباني”، وفي شخصية ابن خلدون في مسرحية “منمنمات تاريخية”. واستحضار الشخصيتين في هذين العملين مكثف دلالياً بوصفهما نموذجين لصاحب المعرفة استيعاباً وإبداعاً. كما أشارت العلي إلى أن ونوس قدّم من خلالهما نموذجين متناقضين، لكن يبقى الاختلاف كبيراً بين موقفي الشخصيتين، من دون أن يخفي ونوس انحيازه لأبي خليل القباني فيقدمه نموذجاً للمثقف الطليعي يكافح مع فرقته التمثيلية لإرساء فن التمثيل في سورية، ولذلك يبيع أملاكه ليقيم مسرحاً ويقف في وجه كل القوى الرجعية التي عوّقت خطاه، والتي استطاعت فيما بعد أن تقف في وجه مسرحه الذي يُعدّ ريادة ونهضة حقيقية في ذلك الوقت، فأحرقت مسرحه، لكن من دون أن ييأس بل سافر لمصر وتابع مسيرته الفنية التي استمرت لما يزيد على ثلاثة عشر عاماً. في حين قدم ونوس شخصية ابن خلدون بوصفه صورة للمثقف الانتهازي المهادن الاستسلامي لأنه يتفق مع أعيان دمشق وتجارها لتسليم دمشق من دون مقاومة تذكر للغزو المغولي بقيادة تيمورلنك، وهذا ما استهجنه ونوس الذي قدم موقفه على لسان شخصية تلميذ ابن خلدون المفترض “شرف الدين”. وأشارت العلي إلى أنه على الرغم من اختلاف موقفي الشخصيتين إلاّ أن هناك تشابهاً في آليات التوظيف في هاتين المسرحيتين، فونوس لجأ إلى حيلة التوثيق التاريخي، الذي يعطي المصداقية للأحداث والشخصيات، وتالياً يتسلل الكاتب ونوس ليطرح رؤاه فيما يخص هذه الأحداث والشخصيات، لذلك في كلتا المسرحيتين نلاحظ أنه يلح على تتابع الأزمات في الماضي ويكلف شخصية أو أكثر في تحديد الزمان والمكان. ثم تحدثت المُحاضِرة عن شخصية المدرّس فاروق في مسرحية “يوم من زماننا” الشخصية الشاهد المعاصر على الفساد في جميع قطاعات الحياة التي انتهت بانتحاره، بسبب المفارقة التي عاشتها الشخصية بين ما يؤمن به من قيم وبين فساد متفشٍّ بكل الواقع. كما تناولت مسرحية “الفيل يا ملك الزمان” التي اقتبسها ونوس من قصة شعبية، فقدم من خلالها صورة أخرى للمثقف وهي شخصية “زكريا” الذي حاول جاهداً توعية الشعب للوقوف في وجه الملك وتنبيهه بما ينشره فيله من فساد في كل مكان يطأه، واتفق مع الناس على أن يهتف أمام الملك بـ “الفيل يا ملك الزمان” ليردد من خلفه الشعب مطالباً برد أذى الفيل عنهم، لكنهم خذلوه بعد أن اختنقت أصواتهم في حناجرهم، فوقف وحيداً أمام الملك مهزوماً فتمنى على الملك تزويج الفيل فازداد عدد الفيلة، كدلالة على آلية ازدياد الفساد بسبب صمت الشعب الذي خذل هذا المثقف. ولم تكتف الباحثة بتسليط الضوء على تلك الشخصيات بل أضاءت لنا بعضاً من المقومات الفنية والدرامية لتلك المسرحيات التي مع الأسف لم نشهد تجسيداً لها منذ فترات بعيدة خاصة “منمنمات تاريخية” التي نزعم أنه باستثناء العرض الذي أخرجته الفنانة نائلة الأطرش وقُدِم في قلعة دمشق لم يقاربها أحد بعد ذلك..