بطالة أغنياء ؟!!
لعلّ أخطر ما يعترينا اليوم أننا لم نلتقط بعد مهارات التكيّف مع وقائع قاهرة لم تعد جديدةً، بما أن عمرها زاد على عقد قاس من الزمن..
فنحن المأزومون منذ أكثر من أحد عشَر عاماً، مازلنا نصرُّ في أروقة السلطة التنفيذية، على ” رصانة وصلف تقليدي” في إدارة الملفّات الباردُ منها والساخنُ.. التخطيط الإستراتيجي طويل الأمد، والإمعان في تأملات اقتصاد المعرفة، وجَسر الفجوة التكنولوجية.. رغم ضجيج كلِّ شيء من حولنا.
الضجيج ذاته لم يتكفل بعد بإبطال مفعول الرغبة الشعبية العارمة بتوهم قدرتنا على الاحتفاظ ببقايا الدور الأبوي للدولة، وانتظار عودة زمن الريادة لقطاعات طالما أتحفتنا بكل ما هو ” حلو و رخيص” أو بـ”بلاش” أحياناً.
في أزمتنا دروسٌ.. هي في محصلاتها إملاءات تحوّل، ربما كانت بفعل الزمن ستبقى إملاءاتٍ حتى لو لم نتأزم بالحرب.. وهي من النوع الذي لا يقبل العناد والمكابرة ومحاولة انتزاع سنوات الرخاء والاسترخاء من براثن الواقع الصعب.
دروسٌ تلقيناها ولابدَّ أن نبدأ بصرفها سلوكاً فعّالاً على الأرض.. حكومةً ومواطنين وهيئات مجتمع أهلي.. بما أن التموضع في مربعٍ عمرهُ يزيد على أحد عشر عاماً لم يعد خياراً حكيماً على الإطلاق.
في مثل ظرفنا لا يمكن لحكومة – ولا لمواطن – أن يعكفا على طاولات الأفق الاستشرافي، لا على مستوى البلد ولا على المستوى الشخصي والأسري.. بل علينا جميعاً أن نتحلى بـ”قصر النظر” لا لابتعادٍ بالرؤى، بل لأنَّ إطفاء الحرائق أهمُّ بكثيرٍ من غضِّ النظر عنها والانشغال بالتفكير بإعادة بناء ما ستلتهمه ألسنة اللهب المتروكة.. وعلينا اليوم الاكتراث كثيراً لإطفاء حرائقنا، وألّا ننفر من مصطلح “حكومة إطفاء حرائق” لأنها إن كانت تهمةً في زمن الرخاء، فستكون وساماً في زمن الأزمات.
في قصر التطلّعات ألفُ نعمة ونعمة.. نخطط لنزرع، ونصنع اليوم، كي نأكل ونشبع في الغد القريب، لا لنحلم بالتصدير ونفشل.. أو نوطِّن أصنافاً زراعية وصناعاتٍ تجريبية، لأنَّ الوقت ليس للتجريب.. نخطط لنصنع ما تنتج أرضنا لا لنستورد ما تنتجه أراضي الآخر أياً كان.
بالفعل نبدو اليوم أمام خريطة طريق طارئة للخلاص الاقتصادي، رسمناها أو رسمها الظرف في أفقنا، لكننا مترددون في حثِّ الخطا نحوها.. أو نخطو بخجلٍ ونحن ننظر إلى الوراء على أمل الفوز بزاوية للاعتكاف بدلاً من المواجهة الجريئة للاستحقاقات الآنية.
خريطة العنوان العريض في إحداثياتها هي التشاركية بين الدولة والمواطن، ففي هذا البلد من الموارد ما يكفينا ويزيد، وما تنقصنا حذاقة الإدارة وقوة الإرادة.. الإدارة الحكومية والإرادة الشعبية، في هاتين الحيثيتين تكمن مشكلتنا وفيهما خلاصنا لو اهتدينا إلى حالة صحيحة من التناغم الهادف بدلاً من التنازع العادم.
لنزرع كلَّ متر مربع من أرضنا.. وعلينا أن نجد المقومات، ولنصنِّع كلّ ما ننتجه في هذا البلد الغني بميزاته، بدلاً من ” رفس النعم” وتصديرها خاماً.. فمن المخجل أن تبقى بطالتنا بطالة وسائل إنتاج قبل أن تكون بطالة قوى عاملة.