الأمم لا تحقق ثورتها بدكاكين سياسوية أسئلة الوعي الملحة في الوطن العربي
إدريس هاني
ولأنّنا نمر في مرحلة مفصلية إقليمياً ودوليّاً، فإنّ حالات من الهوس والإحباط والتردد والالتباس ستكون ظاهرة في المواقف والرُّؤى؛ لا نميز بين خطاب هو جزء من عملية تحريك التاريخ، وخطاب يستعجل التاريخ خارج منطقه وقوانينه.
يخضع المصير العربي لأنماط من التفكير تشكل هي الأخرى عنصر أزمة، يصعب عليك أن تحيط خُبراً بعدد الرؤوس التي تقرر ما هو الطريق الأفضل وما هي مخرجات الأزمة؟ انفصلت السياسة عن الثقافة، وساهم في ذلك المثقف الذي تحوّل إلى تكنوقراط، والسياسوي الذي اقتحم حقل السياسة من دون عدّة نظرية، لفهم قيام الدّول وسقوطها، مفهوم الشرعية وحيثياته، فلسفة السياسة ومفهوم السلطة وتجارب الأمم. كلّ مفاهيم السياسة تلك، خرجت من جبة المثقّف، ولكنها استعملت زيفاً وتبسيطاً من قبل من ارتضوا السياسوية حِرفة تضليلية.
أحزاب عربية استنفدت أغراضها، معارضات سياسية مفقودة أو عميلة للدّاخل أو للخارج، خطاب سياسي مضمونه المزايدات، والكيد، والتكرار.
من الطبيعي أنّ العرب خسروا في ميدان معركة الوعي، وهم مستمرون كمعجزة، لأنّ طلائع الوعي العربي يتحمّلون عبئاً فائقاً من المسؤولية تجاه الوعي.
مع كل معركة وعي نخسرها نتراجع خطوات إلى الخلف.
عدوّ العرب التاريخي يستفيد من هشاشتهم، من وعيهم المثقوب بذاتهم وبانتظاراتهم وإمكاناتهم، لم يجتمع العرب يوماً لمعالجة قضاياهم بجدّ، لم يتداولوا قضاياهم خارج منطق المجاملة، لم يجتمع مثقفو الأمة مرة على برنامج وحول نقاش جاد، هناك استهتار، وتكرار للأفكار.
تُطور الإمبريالية من أساليبها وأفكارها وتعزز بدائلها بأطاريح فكرية جادة، بينما يعتبر التفكير قضية ثانوية في برنامج السياسات في المجال العربي.
يبدو لي حتى الآن أنّ الوحدات الكبرى والصغرى في الملعب العربي تتصرّف بصبيانية مسنودة بالجهل؛ جهل بالتاريخ وجهل بالمصير، الكفر بالتاريخ، من باب: (تلك أمة قد خلت…) وكفر بالمصير من باب أن الاستشراف كهانة وتنجيم، وظلّوا في آناتهم المتصرمة في معزل عن التخارجات التاريخية الكبرى.
تقرأ في مواقف بعض الأنظمة العربية وأحزابها وأفرادها مظاهر الجهل والعصبية والصبيانية في السياسات، مثل هذا المستوى من الصراع يخرج عن منطق الصراع التّاريخي الذي يدعو باتجاه تحقيق الآفاق والانتظارات الواعية للأمم. سلوكنا السياسي يرسم ملامح أمّة تتحرك خارج سكة التطور التّاريخي، لنقل هي طريقة كائن وأمم مقهورة، محكومة بالذّهان الجماعي.
الأدوات التي نملكها وندبر بها أزمتنا، باتت صدئة، متقادمة، بل تحولت إلى عنصر أزمة، لم تعد خطاباتنا فقط تتجنب المعقول، بل باتت حرباً على المعقول. داهمنا عصر التّفاهة و مازلنا بعد لم نكمل مشوار نهضتنا وتحررنا، فزادنا وبالاً. تمأسُساتنا تقوم داخل المستنقع نفسه من الجهل والوصولية؛ لا شيء مُقنع، ونُعاند.
يفكّر العرب ليس في أحزاب تعبّر عن الأمّة ولا حتى عن مصالح طبقات معينة بالمفهوم الطبقي، بل هي مجموعات مصالح ولوبيات تتشكل على هامش الأزمات العربية. تزيد مجموعات المصالح الأمّة تمزّقاً، وتلتف على قضاياها، وتكرّس الأزمة، وتفتح لها مكاتب في سوق الأزمات.
في الأزمنة الجميلة لقوى النّضال المجرّد والمتعالي بقيم التّضحية، كان النّفاق فضيحة، ولغته مكتوبة على جباه الدّخلاء؛ اليوم وعلينا أن نقرّ بأنّ زمن التفاهة لا يتعلّق بجبهة دون أخرى، بل حتى مجال النّضال اقتحمته التّفاهة، وعربدت، واحتلت المواقع التي لم تكن متاحة إلاّ لمن رفعه عمله الصّالح وتضحياته الكبرى وتاريخه المشهود. كان الدخلاء يتحسسون رقابهم وهم يتسربون إلى مواقع النّضال، لأنّهم يعلمون يومها أنّه لا مجال للعبث مع الفدائيين، ولكن حين بات النّضال بالمراسلة، ودخلنا زمن الماركوتين النّضالي، تجرّأ سرّاق الله، وأكثروا الضجيج.
يكمن سرّ استمراريتنا في فيزياء خفية، وموضوعية، تتعلق بتوازن قوى دولية، كما أنّ له علاقة بالقوة الخفية للقصور الذّاتي، كوننا انطلقنا ذات مرّة. لايتسابق العرب إلاّ على تقويض بعضهم بعضاً، وهم في كل منعطف تاريخي يداهمهم الإفلاس والهدر، في سياسات بلا مردودية.
لم يستيقظ العرب بعد من سباتهم، ومن حاول أن يستيقظ بنوا فوقه سقفاً من الإسمنت، كلّ هذا من أجل دعوة أن نستيقظ ونعي، فمهمة الوعي لم تأخذ حقّها في سياق خطير غلبت عليه التّفاهة والاستخفاف والحقد.