إشكالية النقد ووهم الشهرة على طرفي نقيض من قبول الجمهور
بارعة جمعة
يقول علماء الجمال والتربية إن الفن تربية وتعوُّد، ومن يعتاد الفن الهابط لا بُدَّ أن يعتقد أنه هو الفن كما يجب أن يكون، ولعل ما جاء في مقدمة كتاب “النقد الفني” للدكتور نبيل راغب بتوصيف ما يعانيه عالمنا العربي من ضياع للضوابط العلمية والمعايير الموضوعية التي تُفرِّق بين الادعاء والأصالة خير دليل على واقعنا الحالي، الذي بات يفتقد الهوية الحقيقية للفن الأصيل، بالتماس الأعذار للجمهور فيما إذا أقبل على اعتناق نماذج فعليَّة لا ترتقي للمستوى المطلوب الذي لم يعد على قدر المسؤولية من قبل صُنَّاعه.
ثقافة نقدية
وإذا ما قلنا إن النحت هو فن العمق، والرسم هو فن السطح، والموسيقا فن الزمن، والعمارة فن المساحة، فنحن نستخدم مصطلحاتٍ لمختلف الفنون، التي تبرز الاختلاف في أساسيات النقد بالرغم من قيامها على أرض مشتركة.
كما لاختلاف الآراء والاتجاهات نحو ظاهرةٍ فنيِّةٍ ما، ييرره الاتجاه الأول لأغلبية الجمهور نحوها، والتي عجز الطرف الآخر عن الاقتناع بها من منظور عمق التفكير والملاحظة المترافقة مع مدلولات فهم طبيعة الإنسان لما يُعرض عليه، واختلاف تناول الفكرة لدى فئة دون أخرى، ما جعل منها محط جدل بوصفها حالة نقديَّة لها أسبابها .
واليوم أمام ما تقدمه الفنون على اختلاف أنواعها، لم يعد لجمهورها سوى الاختيار بينها، فنجد الأنظار تجذب ما يشبه شخصية المتلقي، وتدفع به للانخراط بها من دون النظر لما تحمله من قيم ومنعكسات اجتماعية وأخلاقية، جعلت من روَّاد الفن الحديث غائبين بشكل شبه كامل عما قدمته الأجيال القديمة من تراث فنيِّ لا يمكن لمن لم يُعاصر جيلين من الاختلاف الفني أن يدرك قيمتها وثقلها أمام نقيضها من المحتوى العادي والمستسهل لدى مقدميه ومعتنقيه.
ومعظمنا يجد بمثل هذه الظواهر انسياقاً خلف ثقافات لا تشبهنا أبداً، فالظهور بشيء عكس المألوف هو سمة العصر، الذي فرض شروطه على مطربين حديثي العهد، اختاروا من مسارح عدَّة منبراً لملامسة ألحان أصيلة لها من القدم مساحةً لا يجرؤ أحد على تجاوزها أو الاقتراب منها، فما قدمه مسرح قلعة دمشق مؤخراً ضمن احتفالياته المتنوعة من أنماط متنوعة، أبرزها وأكثرها جدلاً قيام المطرب العراقي سيف نبيل بمحاكاة أغنية للسيِّدة فيروز بأسلوب حاول أن يكون مختلفاً، غير أنه حكم على نفسه بالفشل في نظر الكثيرين، بل كان محط استفزاز لدى الإعلامية لانا الجندي، واصفةً ما حدث بالجريمة بحق الفن والفنانين، قياساً بما تم تقديمه سابقاً على مسرح القلعة، لتبقى ردود أفعال الجمهور بالإساءة لها دليلاً واضحاً على ضعف ثقافتنا النقدية وبعدها عن مكامن الصوابيَّة.
مقياس النجاح
الانتشار الجماهيري لم يعد مُقنعاً من حيث النظرة النقديَّة، التي تقيس عادةً المحتوى وفق نظام الموضوعيَّة، لا بل أصبح للتعاطف من قبل الجمهور مع أعمال كثيرة أثبتت نجاحها لاحقاً، وسيلةً لجعلها مصيدة لشبابيك التذاكر وتجمُّعات المهرجانات التي ترعى وتحوي منتجي ومروِّجي الفن الهابط، لجعله الورقة الأقوى من حيث الحضور، لكن بلا استمراريَّة.
كما أن لمفهوم الجماهيرية تشعُّباته ودرجاته، فهي تأتي مترافقةً مع مقومات وعناصر النجاح أو الفشل، فيما الرضوخ لرغبات جمهور يريد ما لا يفهمه وينساق بتهمة النجومية خلف أصواتٍ شاحبة لها من الخوف على مستقبلها ما لسائر في عتمة لا نهاية له.
فالمؤيِّدون بحسن نيَّةٍ وهم أقليَّة، يُدافعون عن رأيهم من مبدأ الحريَّة الشخصيَّة، ليبقى للبعض الآخر الخيار الوحيد أمام الجمهور صاحب القول الفصل، بينما المُعارض لمبدأ الفن الحديث والهابط منه، يَريَ أن ما يُقدم لا يرقى لذائقة الجمهور ولا لمستوى الفن، بل على العكس، هو بمنزلة الدَّمار لأخلاقيات مجتمع امتاز بغرابة طباعه، ما يجعل تداول هذا الفن بمنزلة الإفساد للذوق العام.
فالحوار مهمٌ ومطلوب، كما أن الدفاع عن حريَّة الرأي والإبداع شيءٌ مُقدَّس، والذي هو بمنزلة الوسيلة للارتقاء بأذواق الناس ونشر القيم الإيجابيَّة، والبعد عن الظواهر الشاذَّة والسلبيَّة في المجتمع.