للورق حكمته… ولنا الفناء!
جواد ديوب
انتبهت إلى أنني حين أفكر في شيء ما أو في كتابة مقالة يميل رأسي نحو اليسار، ولكنني انتبهت أيضا إلى أنه يميل جهة اليسار أيضاً حين أستمع إلى مقطوعة موسيقية أو حين أتذكر شيئاً حميماً.
لا مكان للتأويل السياسي هنا فأنا لا أحب الانتماءات الأيديولوجية، لأن كل تحزّب مهما كانت نظرياته راقيةً وأهدافه عظيمة هو، برأيي، قتلٌ للأفكار وهاويةٌ نحو المجهول.
الشرود لازمةٌ من لوازم تفكيري، أمارسه كنوع من تأمل يقظ، لكن المشكلة في مسألة الكتابة أو في طبيعة الأفكار هي أننا نبدأ بشيء وننتهي بشيء آخر تماماً!
أقصد أن الفكرة في العقل هي غير تلك التي نصيغها بكلمات على الورق، كأنّ للورق سطوته الخاصة، مغناطيس “يمغنط” برادة الأفكار ويجذبها إليه بقوة مدهشة، ثم يشكّلها حسب “شيفرة” سرّية موجودة في أليافه غير المرئية، أو كأن لكل ورقة حكمتها المتفرّدة التي تفرضها على الحبر المنحدر من العقل نحوها.
فالورقة البيضاء لها تأثير فتاة جميلة ترفع ضغط الدم، والورقة السمراء لها طعم السكّر المحروق ورائحة الفانيليا، والورقة المسطّرة تحرمك متعة الخروج عن الخط المرسوم، والورقة المخططة بمربعات كالشبكة تدعوك إلى اللعب واللهو ورسم أشكال هندسية أكثر مما تدعوك إلى الكتابة، والورقة الملوّنة بألوان قوس قزح تحرمك النوم وأنت تصنع منها بمساعدة الضوء والظل ديكوراً لمسرحية أو كادراً لفيلمٍ أو سفينةً لقراصنة خيالاتك الأكثر شيطانيةٍ، والكرتونة السميكة تذكرني بجدّتي، بتجعّدات يديها وحكاياتها العتيقة ورائحة حطب التين والزيتون في موقدها، والورقة المصقولة الملساء مراوغةٌ محتالةٌ تكتب عليها كلمةً ما فتعيدها لك مشوّهةً باستطالاتٍ غريبة تشبه فتاة تضع “مكياجاً” على وجهها بذوقٍ رديء وفي يومٍ حار.
وقصاصات الورق المربعة هي كالأشخاص قصار القامة، لديها عقدة نقص تجاه كل شيء، فإن وضعتها على الطاولة تضيع في زحام المصنّفات والكتب، وإن وضعتها في جيبك تنساها لخفّتها وصغرها، وإن وضعتها في كتاب ما تلتصق بعناد وعن قصد بمكانها وتجعلك تقلب صفحات الكتاب عشر مرات حتى تجدها، وإن ألصقتها بالصمغ أمامك على الجدار أو على لوح الكتابة بقيت هناك ملتصقة نكايةً بك لتذكّرك بملاحظة كتبتها منذ شهور وتريد أن تنساها لكنها تصرّ على البقاء في وجهك لتستفزّك وتغضبك أكثر.
وتبقى أجمل الأوراق هي تلك التي كتبت عليها أو كتب عليها المحبوب عبارةً تجعلك تزهر بالحب وللحب، رغم أن الورقة كنت قد بعثرت عليها أفكارك سابقاً، وصححتها عدة مرات حتى باتت لا تصلح حتى كمسودة، لكنها بعد العبارة تلك تصبح رمزاً، أيقونةً، وعداً بسعادة دائمة!
لكن بعيداً عن رومانسية العاشقين وبكائياتهم، وطهرانية الورود الغافية على وساداتهم، وملائكية عوالمهم وأشعارهم، ماذا عن ورقةٍ كتَبَ عليها أبٌ أو صديقٌ، أو خطّت عليها أمٌّ أو صديقةٌ كلماتِ عتابٍ بقيت كالشوكة تحت الجلد ولم تكن مطلقاً نموذجاً للحكمة الرائعة: “رحم الله امرأً أهداني عيوبي”؟
ماذا عن ورقةِ نعوةٍ كُتبت عليها أسماءُ من أحببناهم يوماً، من كانوا البارحة، البارحة بالضبط، وعلى العشاء تحديداً، يغيظوننا بمقالبهم الساخرة وضحكاتهم اللاذعة ومحبّتهم المثيرة للغيرة؟
ماذا عن أوراق حروبٍ قديمة التي كانت سبباً في تغيير مجريات التاريخ؟ فقد كانت ورقةٌ مزوّرةٌ كافيةً لانتصار جيش أحد الملوك على جيشٍ آخر، لأن الوزير بدّل الجملة التي أرسلها الملك إلى فرسانه، فأضاف حرف النون إلى كلمة “كردند” التي بمعنى “عودوا أو تراجعوا”، لتصبح “نكردند” أي “لا تتراجعوا”، فسجّل تاريخ تلك البلاد سيرة الانتصار بجملة: “لقد هُزِمَ خمسون ألف سيف بنقطة واحدة من قلم”!
كيف كانت حياة البشرية لتكون لولا ما دوّنه البشر على رقوقهم وفي صحفهم (بإمكاننا ببساطة أن نضيف وما يدونونه على كمبيوتراتهم) لولا غواية الخلود التي همست لهم بها عفاريت الغرور، ولولا نرجسيّة أولئك الراغبين في نقش حكاياتهم على وجه التاريخ؟
هي الحكمة المدهشة للورق وعظمة اللغة والأحرف الساحرة اللانهائيّةِ الأسرار إذاً؟ أم هي لعنة المعرفة وضريبة اكتشاف الكتابة؟ بل هي حماقة العقل البشري المتغاوي، المتعجرف، الطاووس، المعتقد أنه “العارف” وأن معرفته ستخلّده أبداً… ولن تخلّده أبدا.