مدينون للرقابة.. بجميل الحماية من التفكير
زيد قطريب
مدينونَ نحنُ للرقابة في كل حدب وصوب ، بكامل مشارطها ومقصّاتها واتهاماتها المتجنية.
فقد دفعتنا لابتكار الأساليب حمايةً المعنى، واختراع الرموز هرباً من اتساع دائرة المحرمات، ورغم ما تسببت به من تدجين وقتل للمواهب، إلا أن فضل الرقابة في “طفشان” بعض الكتّاب إلى المنافي لا يمكن إنكاره، فمن هناك حصلنا على مؤلفات ما كانت لتولد في فيافي أوطانها.
لولا الرقابة، لما قرأنا “مزرعة الحيوان” لجورج أورويل، أو “لا تنسى تكة السروال” لعزيز نيسين. ونحن مطالبون بالعرفان بالجميل تجاه الرقابة التي تعمل بطيبة قلب كي تحمي المجتمع من الأفكار الهدّامة!
بالطبع، هذا لا يمنع من بعض الهنّات التي وقعت بها الرقابة، عندما طالبت بإعدام طه حسين، وجعلته يغير اسم كتابه من “في الشعر الجاهلي” إلى “في الأدب الجاهلي” وتجبره على حذف فقرات منه، فالرقابة كانت أدرى بما يجب أن يعرفه القراء وما يجب أن يبقى طيّ الكتمان، مثلما فعلت في رواية نجيب محفوظ “أولاد حارتنا” التي نال صاحبها نوبل، ومنعت حتى زمن قريب في مصر، بعد أن اضطر صاحبها لإصدار طبعتها في بيروت، فالرقابة التي تتسلح بكتاب “تهافت الفلاسفة” للغزالي، ضد “تهافت التهافت” لابن رشد، ستجد دائماً ما يبرر أحوالها بحجة حماية الأصالة والتقاليد من اقتحامات العقل.
من طرائف الرقابة، غير المقصودة طبعاً، حذف بعض دور النشر العربية مقاطع كثيرة من “ألف ليلة وليلة” لأنها تخدش الحياء العام، الذي لم يخدشه اغتصاب فلسطين أو رزوح معظم الشعوب العربية تحت خط الفقر والفاقة.
بل إن زلات الرقابة المرتكبة “بحسن نيّة” نالت من الترجمات أيضاً عندما عدّل العرب روايات أجاثا كريستي بشكل يتماشى مع عادات القبيلة المحتاطة دائماً ضد الغزو الثقافي، لأن العدو يمكن أن يسجل أهداف التسلل في شباك العقل من دون أن ينتبه الحكم.
انطلاقاً من ذلك، سوف تُصادر معظم كتب تحرير المرأة، بحجة الزندقة ، ولن ينجو حتى كتاب “طفولة نهد” لنزار قباني، مثلما حصل عندما لوحق جده أبو خليل القباني رائد المسرح العربي في الشوارع من فتية صغار جرى توظيفهم من طرابيش الرقابة حتى يسيئوا إلى هذا المبدع الذي تحتفي الثقافة بذكرى ولادته اليوم.!
حتى الغرب المزاود في الحريات والديمقراطية، كان أسوأ الرقباء علينا عندما شقت المؤلفات عصا الطاعة على الاستعمار والانتداب، فصادرت فرنسا كتاب “نشوء الأمة السورية” لأنطون سعاده الذي كتبه في السجن، وأخفته حتى اليوم، كما تمت مصادرة وإغلاق الصحف المناهضة للاستعمار والانتداب وملاحقة الكتاب.
اليوم، تُصادر الكثير من المطبوعات في معارض الكتب العربية، فاتفاقات التبادل الثقافي الموقعة بين الأشقاء بقيت حبراً على ورق، وما يناسب المغرب قد لا يروق للخليج، مثلما هو الحال بالنسبة للمشرق أو وادي النيل، في كل هذا تبدو الرقابة صاحبة الكلمة الفصل، إلى درجة أنه عندما يتم تعيين مندوبين في معارض الكتب مهمتهم حراسة عقول القراء من المطبوعات المحرضة على التفكير والحرية ونقد السائد .!
رغم كل ماسبق، نحن مدينون للرقابة بكامل سكاكينها وأحكامها التعسفية، مادامت النيّات طيبة، ومادامت السيوف المسلطة على الكلمة لا تهدف سوى إلى حماية العقل من وباء التفكير.!