الأكثر شكوى
لا يلام الفقراء إن رفعوا الصوت عالياً بشكواهم من ضيق الحال وتقطع سبل العيش في ظل استمرار تفاقم الأسعار وضعف الدخل، فيما ينبغي العمل الجاد والمسؤول لرفع معاناتهم بتحسين ملموس لمعيشتهم، لكن العجيب أن الفقراء ليسوا وحدهم من يشكو فهناك من هم أكثر شكوى منهم.
قد يصادف أن تجلس مع أحد المتعهدين ولدى تناول أحوال البلد تجده ينهال بشكاوى عن خسائره وعدم جدوى العمل، وعندما تحاول معرفة ماهية الخسائر يعطيك مثالاً أنه قدر 50 مليوناً أرباحاً من أحد المشاريع لكن ذلك لم يتحقق وخسر من مربحه 10أو 20 مليوناً وهذا ما يعده خسارة، وبالمقابل إذا نظرت لعمله تجده يقاتل ويتصيد لأخذ مزيد من التعهدات فيما معيشته مغمورة بكل أشكال الرفاهية.
وإذا التقيت أحد الصناعيين ممن لديه منشآت بالمليارات ودار حديث عن أحوال العمل يبدأ بالصراخ إزاء الصعوبات أو القرارات الصادرة بزيادة الرسوم والضرائب أو أثمان المحروقات والكهرباء، ويطلق معزوفة الشكوى من قبيل؛ لقد دُمرنا.. إننا نراوح بالمكان بل ونرجع للوراء.. لم نعد نحتمل.. لا يوجد أفق، علماً أن تبعات تلك القرارات يُحمِّلها للمستهلك ونسبة ربحه لا تمس، وبالنظر إلى واقع عمله وحياته بعين العارفين بحاله ترى أنه يتوسع بين وقت وآخر بإحداث منشآت هنا وهناك وتنقلاته للاصطياف من دولة لأخرى لا تعد ولا تحصى.
أما إن واجهت بعض تجار العقارات فلا تعرف كيف يجيدون التباكي من ركود تجارة البناء وتراجع دخلهم، فيما الواقع أن معظم من هم بميدان تجارة العقارات والبناء برزوا مؤخراً بملاءة مالية ضخمة ويزاولون المهنة بقوة، وكل يوم تسمع أن هذا اشترى أراضي واسعة هنا، وذاك شيّد عدة أبنية هناك بمبالغ كبيرة والترف في حياتهم حدِّث ولا حرج.
إن الأمثلة بهذا المنحى تطول ولا ينتهي سردها، وخاصةً إذا وسعنا الدائرة لتناول من أثروا خلال سنوات الحرب، حيث ظاهرهم الشكوى وباطنهم تبييض أموال طائلة بشراء الأراضي والعقارات وإقامة المنشآت، وأمام هذا الواقع يبقى لسان حال الفقراء عزيزي النفس يقول: الشكوى لغير الله مذلة، وكلهم يقين أنه إضافة إلى الحرب والحصار فإن الفاسدين وتجار الأزمة هم من رأس أسباب تردي أوضاعهم المعيشية، وأملهم -وإن كان ضعيفاً- ألا يطول انتظار وقت ردعهم.