فن الزجل طاقة شعريَّة وقدرة فطريَّة
بارعة جمعة
تُروى هذه الواقعة عن عميد الأدب العربي طه حسين، التي تقول: إنه لم يكن يصدّق أن شعراء الزجل يرتجلون ما يقولون، غير إنه وفي إحدى زياراته لبيروت، دعاه صديق له لحضور حفلة زجل لفرقة “شحرور الوادي”… ولما دخل القاعة وكانت الحفلة حامية الوطيس، رحبّ أحد الحاضرين من الجمهور بعميد الأدب العربي الكفيف قائلاً: أهلا وسهلا بطه حسين”… هنا ارتجل الشحرور على الفور :
أهلا وسهلا بطه حسين
ربـّي أعطـانـي عينـيـن
العين الوحـدة بتكفينـي
خد لك عين وخلي عين
وهنا ابتسم طه حسين لتلقائية هذه الردة وظرافتها بينما كان الحضور هائجاً ومائجاً، وإذا بالشاعر علي الحاج يرتجل :
أهلا وسهلا بطه حسين
بيلزم لك عينيـن اتنيـن
تكـرّم شحـرور الـوادي
منـك عيـن ومنـي عيـن
وهنا كبرت البسمة على شفتي طه حسين، وبينما أصوات الجمهور تتعالى وتكاد تهد القاعة، وإذا بأنيس روحانا يفاجئ الجميع بارتجاله:
لا تقبـل يـا طـه حسيـن
من كل واحد تاخد عين
بقدم لـك جـوز عيونـي
هدية، لا قرضة ولا دين
يُقال هنا ضحك طه حسين وضجت القاعة أكثر، ولكن بخوف؛ إذ ماذا بقي للشاعر الرابع ليقول، لكن طانيوس عبده الشاعر الرابع في جوقة الشحرور فاجأ طه حسين والجمهور بقوله:
ما بيلزملو طه حسيـن
عين ولا أكثر من عين
الله اختصّه بعين العقل
بيقشع فيهـا عالميليـن..
هنا «خلف كل حجرٍ من حجارة هذا الجبل، هناك شاعر زجل»، لعل ما قاله الشاعر غسان المعري أحد مؤسسي جمعية الزجل في حديثه عن جبال القلمون الممتدة إلى جبال لبنان، هو الأبلغ في وصف تراث هذه المنطقة، التي اشتهرت بشعرائها الكثر، ممن تغنوا بجمال بلداتهم وتبادلوا عبارات شعرية عرفت بفن الزجل، حرصاً منهم على إيجاد فكرة جديدة ورسم البسمة لدى المتلقي أثناء طرح أي موضوع، وتعبيراً عن حبِّهم لهذا النوع الشعري الفريد بهم.
عشق بالفطرة
مخزون في قلب الشاعر، لا تعلم متى وكيف يخرج، أحدهم يُعبّر بالفصحى والآخر بالعاميَّة، ليبقى لبعضها الجمع بين الاثنين بآنٍ معاً، كما أنه من أكثر الفنون الشعرية رسوخاً في الذاكرة الشعبية لبلاد الشام عموماً وفي سورية بصورة خاصة، ويعود الفضل في ذلك لالتصاقه بوجدان وتراث الشعب.
حظي شعر الزجل بمكانة متميزة لدى أبناء الريف السوري، ليتخطى كونه هواية داخلاً إلى عمق الحياة اليومية لهم، ومتناولاً أدق التفاصيل ليروي من خلاله تراث وتقاليد وعادات يومية اجتماعية بقوالب شعرية غنائية، كما تشير الأبحاث المختلفة التي قام بها العديد من الباحثين السوريين ومنهم الباحث أسامة حسون الذي أشار سابقاً إلى أن النشأة الأولى لشعر الزجل تعود لمنطقة القلمون، لكونها معقل اللغة الآرامية، التي لا يزال سكان عدد من بلداتها ينطقون بها، ليبقى مار أفرام السرياني في القرن الرابع الميلادي أول من كتب في الزجل، بأسلوب القصيدة والترنيمة الدينية.
ويرجع الكثير ظهور الزجل في الريف إلى ارتباطه بالحياة الريفية ومعيشة الفلاحين اليومية، والتي كانت وسيلتهم للتخفيف من عناء العمل في الحقول واستنهاض الهمم، والمسلي الوحيد في جلسات السمر والسهر الصيفية.
ألوان غنائيَّة
وكما لكل لون غنائي ألوانه، تعددت أنواع شعر الزجل التي بلغت خمسة عشر نوعاً بين: (العتابا والميجانا وأبو الزولف والشروقي والروزانا والندب والمعنَّى)، والتي تختلف اختلافاً كلياً عن أوزان الشعر الفصيح المقفى، كما يطغى الطابع الاجتماعي عليه بنقده للظواهر الاجتماعية اليومية، إلّا أن البعض انتقل بهذا الفن إلى الهجاء وتوظيفه في القدح والذَّم أحياناً، والذي لم ينتقص من مكانة هذا الفن التراثي برأي محبيه، إنما هو انعكاس لروح البيئة الشاميَّة وتفاصيلها العفوية الصادقة.
ويتسم الزجل باعتماده على اللهجة المحكية التي باتت أقرب لاستيعاب المتلقي من الفصحى، كما برز “القرادي” كأكثر أنواع شعر الزجل شيوعاً وانتشاراً لدى الشعراء والمستمعين على حدٍّ سواء، كما بات المفضَّل في حفلات الأعراس وجولات التحدي، لتميزه بالشعبية العائدة لسهولة إلقائه مقارنةً بغيره من الأوزان الشعريَّة الخفيفة، عدا عن طابع الغناء والتحدي الذي يتطلبه مع القدرة على الارتجال بين الشعراء المشاركين، الذي يضفي نوعاً من الحماسة والجاذبية عند الجمهور، ولاسيَّما مع استخدام أدوات إيقاعيَّة كالطبلة والدَّف أثناء غنائه.
كما عرفت العتابا كنوعٍ زجليٍّ من التراث الشعبي ذات مكانة مرموقة في الغناء، يرددها العامة في كل مناسبة وعادة ما تكون مصاحبة للميجانا، تبدأ العتابا عادة بكلمة “أوف”، وتتركب من بيتين ولكل بيت شطران، تكون الأشطر الثلاثة الأولى على قافية مجنَّسةٍ أي يتفقان في اللفظ ويختلفان في المعنى، وينتهي الشطر الرابع بالباء الساكنة المسبوقة بالألف أو بالفتحة, بقي أن نشير إلى أن للزجل تنوعه كبقية أنواع الفنون الأخرى وإن ارتبط بتراث المنطقة يبقى ملجأ الشعراء والزجَّالين من أبنائه للتعبير عن أنفسهم في الميادين والمناسبات كلها..
ونختم بالأبيات التالية:
سألتو بعيد الأم أمك وين .. تتجبلها في عيدها هدية
قلي انصابت صرلها عامين .. وبجناحها ماعدت اتفيَّا
قلت لاتزعل يانور العين .. لوغابت الأم الحقيقية
مازال كل منا الو أمين .. أم اللي متل الناس عم بتموت وأم اللي مابتموت سورية..