من الرابح ومن الخاسر في العملية الروسية في أوكرانيا؟
إدريس هاني
تدور العملية المذكورة في مساحة هي الأكبر في أوروبا، وفي مجال يعدّ سلّة العالم من القمح، فضلاً عن أنّها مساحة استثنائية من حيث التموقع الجيوسياسي، لكونها خطّ الصدع بين معسكرين مازالا مختلفين ووريثين للحرب الباردة. كانت العملية تقتضي تقصّياً تكتيكياً لنقاط القوة، وهو ما جعل المعارك تكتيكية، لأنّ روسيا لو كان هدفها الحرب الشّاملة، لابتلعت أوكرانيا في نصف يوم.
لا تنتمي العملية الروسية في أوكرانيا إلى أنماط الحروب الصُّغرى التي تنشب بين دولتين من العالم الثالث؛ فلا يوجد تناسب بين البلدين من حيث القوّة. بل أوكرانيا أريد لها أن تكون حصان طروادة لحشر روسيا جيو-سياسياً، وتشكيل قاعدة انطلاق باتجاه أوراسيا.
استهان الغرب بروسيا كما يستهين بالصين، كما يستهين بالدّول الصاعدة. وأمام جنون العظمة هذا بالفعل، كانت عملية بوتين في تمام التّواضع والتوازن، لأنّها عملت خلافاً لما تنشره الدّعاية، ضدّ الغطرسة والاستكبار الدوليين. ومن يملك أدوات ومفاتيح الاستشراف السياسي، سيدرك أنّ روسيا وضعت مصير العالم أمام مسؤوليته.
قبل المضيّ في البحث عن الربح والخسارة في هذه العملية، لا بدّ من الوقوف عند الدّعاية التي تُنتجها جماعات الإخوان التي تولّت مهمّة تعزيز الدّعاية الغربية ضدّ روسيا. وهذه الجماعات التي فقدت كل المصداقية فضلاً عن القوّة، ستجد نفسها متذبذبة كلّما حصل تقدّم في العلاقة بين موسكو وأنقرة. فبوتين لم يتجاوز الاعتبارات الدولية ولا حتى المصالح العالمية، فلقد أنقذ العالم من كارثة غذائية، ومن هنا منح تركيا دوراً لتحرير اتفاق تمرير الحبوب الأوكراني إلى العالم. هذا الفضل يعود إلى بوتين وليس إلى الوسيط، لأنّه كان بإمكانه أن يمنح هذه الوساطة لرئيس الوزراء الإيطالي المُطاح به. لقد منح بوتين أردوغان دوراً وهو في الوقت نفسه تجاهل لرئيس الوزراء الإيطالي المخلوع، الذي سبق أن طرح موضوع الوساطة بخصوص توريد القمح من أوكرانيا. فالرئيس الروسي مدرك كل استحقاقات وتبعات هذه العملية، كما أنه مدرك كل سماسرة الأزمة، وهو ليس بصدد حرب على العالم، بل هي عملية من أجل عالم نظيف من سياسات الهيمنة والتدخّل والغزو.
العملية الروسية في أوكرانيا أكبر من أن يستوعبها فضلاً عن أن يؤثّر فيها ضجيج الجماعات الوظيفية التي تقحم تصوّراً ساذجاً عن العلاقات الدّولية في لعبة الدّعاية. فقد أوضحت هذه الأزمة كيف أنّ الجماعات الوظيفية تتطاول على قضايا ليست لاعباً حقيقياً فيها، وهي فضلاً عن ذلك مضطربة تبعاً لاضطراب سياسة أردوغان حيال ما يجري في المنطقة. فاللاعبون الأساسيون في هذه العملية، يتوفّرون على استقلالية القرار، ولا يخضعون لسلطة الأحلاف. ولا يوجد في المقابل إلا دول بما فيها أوروبا، لا تملك قرارها في هذه المعركة. أيّ معنى لدعاية القوى الوظيفية في الهامش في وجه دولة تهدد المملكة المتحدة بتسونامي، وأوروبا بما لا تحمد عقباه؟ نحن أمام كوميديا حقيقية ما زالت تتحفنا بها دعاية الجماعات الوظيفية في البيداء العربية. لكن يبقى السؤال: ما حدود الربح وما حدود الخسارة في هذه العملية؟
– الرابح الأوّل هو النظام الدّولي ؛ ولكي ندرك ذلك، لا بدّ من التّأكيد على أنّه إذ لم تعد توجد قوة قادرة على إرساء التوازن أمام هذا الانزياح الإمبريالي والاستهتار بالقانون الدّولي، فالعالم كله سيسقط في الهاوية.
– الرابح الثاني: العالم الثالث؛ وهذا لا غبار عليه، فمحنة هذا الهامش استفحلت على شتّى المستويات، والفجوة بين الشمال والجنوب ازدادت اتساعاً، وبات العالم الثالث خارج أي اهتمام تنموي أممي، فقد انتهت سياسات المساعدات بأخطر أنواع الابتزاز الذي انتهى بتدمير اقتصادات ومصارف دول لأسباب سياسية، انعكست بشكل مأسوي على المجتمعات والبيئة والاستقرار، بل ساهمت في إشعال حروب داخل العالم الثالث.
– الرابح الثالث هو العرب ؛ فقد كان المجال العربي منذ سقوط الاتحاد السوفييتي حتى اليوم، مجالاً للنكبات والخراب والغزو والتدخل. وقد راهنت روسيا في وقت لاحق على الاحتجاج القانوني عبثاً، ذلك لأنّ الهيمنة على النظام الدّولي باتت واحدة من تجليات نظام القطب الواحد. غير أنّ تحوّلاً استراتيجياً حدث عندما تدخلت روسيا بثقلها العسكري في سورية في إطار تحالف قديم ومتين بين موسكو ودمشق، تعززه معاهدة الدفاع المشترك، غيّر من قواعد الاشتباك، وأحدث قطيعة مع النمط القديم. دارت داخل سورية معارك كبرى، فتعقد المشهد السوري، وهو التعقيد الذي فرضته تطوّرات الأحداث، وكان التعقيد ليس فقط فرصة بل هو نتيجة لتقويض لغة التبسيط التي انتهجها الغرب في منظومته الدّعائية. وكان الحضور الروسي في سورية تمريناً أهّله لمستوى جديد من مقاومة الهيمنة على القرار الدّولي.
وكان العرب بمن فيهم حلفاء ناتو قد عانوا هيمنة القطب الوحيد، إذ أسقط الغرب عدداً ممن كانوا حلفاء تقليديين له، وساد الابتزاز. قدم التحالف الروسي-السوري مثالاً أنموذجياً، قوامه الوفاء والرّبح المشترك، واحترام القرار السيادي للمتحالفين. صحيح أنّ إيران شكلت أيضاً بيضة القبان في هذا الحلف الذي حال دون وقوع سورية بين الكماشة التركية والإسرائيلية.
لم يكن هذا في مصلحة سورية وحدها فحسب، بل بات مثالاً لكل الدول العربية التي تنفست الصعداء من التلويح بالتدخل والعقوبات، بل إنّ سياسة التقسيم كانت على وشك التنفيذ لولا معارك الصمود في سورية .
. – الرابح الرابع هو أوروبا ؛ ولعلّ المفارقة هنا هي أنّ البعض يعدّ أنّ انهيار وشلّ ناتو، هو علامة على خسارة أوروبا، لكن الواقع يؤكد أنّ روسيا في الوقت نفسه تعمل موضوعياً على تحرير أوروبا العجوز من عقدة الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة والارتهان للمخطط التقليدي لـ “ناتو”. أوروبا التي تعاني التفكك، مع أنّها باتت تحت طائلة الغاز الروسي والاقتصاد الصيني، لكنّ وفاءها لناتو جعلها مرتهنة لاستنزاف موارد مستعمراتها القديمة، بينما حالت سياسات ناتو بينها والتمدد الطبيعي في أوراسيا.
– الرابح الأخير هو روسيا، لأنّ أفق استعادة مكانتها التي يتيحها لها الموقع الجغرافي والتاريخ السياسي والعمق الحضاري، لا يتحقق إلا بزحزحة النظام العالمي، والدفع به إلى مزيد من الاعتراف، وبأن التاريخ سيسجل لروسيا أنها يوما ما أنقذت العالم من السقوط في الهاوية ..
في النهاية لا بدّ من القول، إنّ العالم إن كان هو الرابح، وليس هناك من خاسر سوى السياسات الخاطئة، والغزو والاحتلال. حين يكون السلم العالمي رابحاً، فالخسارة تكون للهيمنة والظّلم.
كاتب من المغرب