حلقات الدبكة الشعبية تراثٌ متنقِّلٌ عبر الأجيال

بارعة جمعة:

في الساحل السوري، ثمة ثلاث دبكات، على ما يروي زميلنا علي الرّاعي، ويرى أن في أساسها تعود ليس إلى مئات السنين وحسب، بل كما كتب على صفحته الشخصية في «فيسبوك» أنها تعود إلى زمن الفينيقيين، والتي يُحددها بثلاث تسميات: “الشبّه، الكرجة، والميلة”، بل يُوصف كل دبكة بعدد الحركات والنقلات وغيرها، وحتى مناسباتها، بل علاقاتها بالألحان، حيث لكلّ لحنٍ دبكاته.

حلقاتٌ شبه دائرية بصفوفٍ متراصَّة وحركاتٍ متقنة ومدروسة، تعبّرعن ألحان وموسيقا خاصَّة، ولكل مرحلة منها مغزىً وهدف، يتبادل متقنوها أدواراً عدة، ويتنافس من خلالها الشُبَّان لإظهار مهاراتهم الفردية التي ورثوها عن أجدادهم الأوائل، بينما يذهب البعض لتجسيد دور حماسيٍّ أمام الجميع.

ولعل ما يدور في فَلك الأعراس وحفلات الأفراح بعض من التمسُّك بهوية الفن السوري، التي لازمت محبيها لعقودٍ طويلة ومراحل متعددة تطور بعضها إثر تمازجها بثقافات أخرى، بينما بقي لمعظمها صبغة خاصة لروادها الأوائل.

وبين لحن “الأورغ” وقرع “الطبل” تتمايز الألحان، فمنها البطيء ومنها السريع، وتتعدد الخطوات بينهما، لنجد الفروق طفيفة بين منطقة وأخرى، والهوى الموسيقي والأداء المُتَّزِن عنوان كل منهما، ووسيلة لربط الروح مع الجسد وخلق انسجام بينهما.

 

تراث متنقل

تنتشر حلقات الدبكة الشعبية عابرةً للحدود على امتداد الوطن العربي، في دول ومناطق عدة تختلف باختلاف اللغات والثقافات، في حين أنه لا فرق بين القائمين على استمراريتها سوى بتجديد اللحن والكلمة بما يتناسب مع ثقافة العصر، حيث لا تخلو فرحة أو مناسبة من أهازيج الكلمات اللطيفة المتلازمة مع طبيعة المكان، لتبقى الكلمة مكملة للحن الذي يطغى في كثير من الأحيان على اهتمام الجمهور ومتذوقي الفن الأصيل.

وتتكون الدبكة من مجموعة تزيد على عشرة أشخاص يطلق عليهم مسمى “الدبيكة”، ومغنِّ يتقن بصوته وكلماته ألواناً مختلفة أشهرها “الدلعونا”، إلى جانب عازف الشبابة، ومن هنا اتسمت الدبكة بطابع جماعي لكل فرد منها دوره الرئيسي في بداية حلقة الدبكة ونهايتها، بالتزامن مع إشارات يتبادلها الدبيكة فيما بينهم بالتنسيق مع اللحن أثناء ارتفاعه وانخفاضه.

ويُصنَّف هذا النوع من الفن السوري تحت اسم التراث “اللامادي”، الذي يعكس طقوس مجتمعٍ حيٍّ وحاضن للذاكرة الشعبية، كما تمتاز منطقة الجزيرة السورية بتنوع حضاراتها وثراء تاريخها الغنائي والموسيقي الموغل بالقدم، مستمداً من تنوعه العرقي تراثاً بألوان عدة كالمواويل والغناء الخاص بكل حالة نفسية، متنقلاً بين الفرح والحزن إلى الحب والحنين.

 

طرق استعراضية

ولأن الدبكة فن قائم بذاته على الحركات الاستعراضية، عرفت بمسميات مختلفة تتبع لكل منطقة مثل “الدحة” المعروفة عند قبائل البدو باستخدام أبيات شعرية لتمجيد القبيلة والعريس، يقوم من خلالها رجلان أو أكثر من فرسان القبيلة باستخدام السيوف والعصي، في حين عرفت الدبكة باسم “الجولاقية” في مناطق الرقة ودير الزور والتي تميزت ببطء إيقاعها وكسرة أرجل وكتف ثقيلة، ودبكة “الزوري” في دير الزور والحسكة ذات الإيقاع السريع باستخدام كسرات خفيفة مع هز الأكتاف، وغيرها الكثير من الأنواع الأخرى.

إلا أنه ومع تطور الفنون والألحان التي لحقت بالدبكة أيضاً، ظهرت العديد من الفرق التي عملت على إحياء التراث الشعبي من منظور آخر ينتمي إلى بيئة الفرات، كما بقيت المطالبات بإدراج الدبكة الشعبية ضمن قائمة “اليونيسكو” في رأس القائمة أسوة بإدراج القدود الحلبية في وقت مضى.

وبقي أن نُشير أخيراً إلى أن الدبكة في سورية، لم تبق كما كانت في السابق أسيرة المكان أو البيئة المحلية، وإنما يُمكن أن نشاهد اليوم، كما اللهجة في الدراما، التي عُرفت بـ«اللهجة البيضا»، يُمكن أن تنسحب على الدبكة السورية بشكلٍ عام، ونصفها بـ«الدبكة البيضا».

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار