كان يقول، وهو لا يعلم أنه يثير في نفسي سخرية تنفلت من كل عِقال، إنه ينتظر جائزة “نوبل” تأتيه يوماً ما إلى عتبة بيته، بإمارة أنه كتب روايات عديدة عن الحارة الشامية ولم ينل زميلُه “نجيب محفوظ” الجائزة العالمية إلّا لأنه طرق عتبات أحياء القاهرة وتجول بين بيوتها وسكانها!
كان الكاتب مهماً بين أبناء جيله، لكن الهاجس الذي سكنه جعل منه رجلاً عصابياً، متكبّراً، له في جلسته بين الرفاق نمط يعتريه الصمت الطويل والامتعاض والتقلّل في الكلام، كأنه يستعد على مدار الساعة للذهاب لاستلام الجائزة، وهو يضيع وقته الثمين بين هواة كتابة! وإذا ردّ على سؤال، اضطراراً، لبس حلّةَ “فريد الدين العطار” أو سكت احتقاراً لسائله باعتباره خُلق للعالمية وليس لجلسة عابرة في مقهى شعبي متواضع!
في السِّير الذاتية للأدباء وغيرهم من المبدعين، عجائبُ من السّلوكيات التي لو انزاح فيها النظر قليلاً لرأى الطفالة والصبيانية والشّطْحَ البعيد عن الواقع! “أنا صاحب اللعبة ولا أحد غيري يتقنها!” “أنا من ابتدع اللغة والمجاز ولا أحد قبلي ولا بعدي!” وهي حالةٌ تجعل من صاحبها في فلَكٍ وحده، لا يعترف بالآخرين بل لا يراهم ولا يشعر بوجودهم! والويل، كلُّ الويل لمن لا يتحدث إليهم بخشوع وتسبيق الحديث بكل الألقاب المفخّمة (قال أحدهم أمامي: دفعت الغالي والنفيس لأنال لقب شاعر ولا أسمح لك أن تخاطبني باسمي المجرد) وشاهدتُ الخيلاء الذي يمشي به أحدُهم حين يكون في احتفالية جماعية كأنه اصطحب معه كلّ مرايا البيت التي يستعرض أمامها قامتَه، وقلّبتُ أوراق كتبٍ نصفُها تأليف والنصف الآخر مدائحُ الآخرين بآياته البيّنات، هكذا كان بعضهم لا يستطيع الحركة دون المواكب التي عرفها بمديح النقاد أو القراء، ودون أن يكون هو نفسُه المعيار الأوحدَ لقياس النوع! لكنّ النرجسية التي تُعالج في العيادات النفسية، وجدت من يتقبّلها عند المبدع، بحيث تتبّعها مؤلفون وصنفوا المبدعين، بالأسماء، بين من يكون عادياً بين الناس ولا يحمّلهم جميل تفرُّده، وبين النرجسيّ صاحب الأطوار الخاصة التي تعطيه الحقّ في التغريد خارج السّرب!
في تجربة التواصل الواسع مع الكتاب الأحياء وأولئك الذين يعيشون في المجلّدات والموسوعات، كان الفرزُ يأتي تلقائياً، وليس من الغرابة بمكان أن يتجاوز القارئ الصفات الذاتية للكاتب، وهي غير محتملة عند غيره، ليهتمّ بما كتب لأن القارئ قادرٌ على هذا الفصل ويستطيع النأي بنفسه عن العلاقات الحميمة المتعِبة مع النرجسي الذي طالما طالعنا في حياته الشخصية مآسي مع المقربين منه والأثمان التي يدفعونها لفهمه والتعايش مع نظرته إلى نفسه!.