بين عبثية الواقع وتطلعات التجديد.. قراءة في الأعمال الكاملة للمناضل كمال خير بك 

راوية زاهر:

(كمال خير بك شاعر يرسم معالم النهضة والحداثة بطرح مستفيض)؛ كتاب للدكتور وائل بركات الصادر عن الهيئة العامة السورية للكتاب.. كمال خير بك الأمير الفينيقي (قدموس) مغادراً قريته السورية (القرداحة) إلى لبنان أوائل خمسينات القرن العشرين وتطلعات تلازم روحه الشابة التواقة للتحرر، فرسم مساره على وجهين أساسيين: النضال في الداخل ضد التخلف لتحقيق التحرر الاجتماعي الداخلي، والنضال في الخارج ضد العدو الصهيوني في كل مكان يمكن أن يطاله فيه.. وفي الجانب الإبداعي؛ كانت أولى نتاجاته الأدبية هي ديوان (البركان) ١٩٦٠م في بيروت، وقد صدر ببصمة تقليدية سواءبالالتزام بعمود الشعر والوزن والقافية، أو في اعتماد موضوعات مطروقة آنذاك لاسيما الموضوع القومي منها، وفيه يثور الشاعر في وجه الغاصب ليمحو آثار الاحتلال، ويُعيد الحق إلى أهله.. فالبركان بما فيه من نارٍ ولهب، كانت اللغة فيه هي لغة جيلنا الثائر الذي يريد أن يهز ضميرالشعب ويثيره ويلهبه صارخاً ومعبراً عن الغضب العارم الذي اجتاح الشارع العربي أيام النكبة، مؤكداً العزم على الوقوف ضد المحتل..

“سأردّ عن هذا التراب نيوبهم

وأزيح عن شعبي رداء العار

إن شوهوا أمسي.. ففي مستقبلي

شمس تبدّد ظلمة الآثار.”

أما ديوانه الثاني (مظاهرات صاخبة للجنون- ١٩٦٥م)

في هذا الديوان بدأ عصر الحداثة الشعرية مستنداً على عمق معرفته بالقصيدة التقليدية، ومتطلبات عصر الحداثة، والمتطلبات التي أصابت المنطقة من ضياع فلسطين، والنكبة، والسير على طرق اللجوء والهجرة. إذ اتخذت القصيدة في هذا الديوان أشكالاً حداثية خرجت على الثابت، وتكيفت مع المتحول، وقد كان له القرار الحاسم؛ أنه مناضل حتى النهاية، وشاعر حين يسمح وقت الفراغ (وداعاً أيها الشعر) العبارة المشبعة بالحزن والإحباط.. في هذا الديوان؛ واكب خير بك الحركة الحداثية بكل أبعادها الفكرية والشعرية، فتبنى فكرة التمرد على القديم، والعمل على بناء الجديد الذي يقف مع الإنسان المستضعف في مجتمع يتطلع نحو المستقبل.. ورغم إيمانه بقوة الكلمة، لكنه بقي مدركاً تأثير الرصاصة التي لايسترد الحق بغيرها.. ورغم إعلانه الابتعاد عن نشر الشعر، إلا أنه لم يفارق الكتابة الشعرية، ويشهد له ذلك بالقصاصات، وأوراق علب الدخان التي جمعها له أصدقاؤه في ثلاثة دواوين: (وداعاً أيها الشعر)، ( دفتر الغياب) ، (الأنهار لا تتقن السباحة في البحر).. وفي ديوان (مظاهرات) في مكاشفة الحقيقة والاعتراف بالواقع عنوانان للحالة الراهنة التي تعيشها الأمة منذ أمدٍ طويل من موت وتخلف..

“يالغة الثورة لاتتعبي

لاتلبسي عباءة الرهبان

بل أوقدي البركان في موكبي

وفجّري الطوفان..

ففي حنايا ثورتي ضحكة

تكسر صخر القبر والأوثان.”

وقد ظهرالرمز جلياً، فرمز للسرير بالموت، واليأس والتشاؤم والخنوع بالعبيد يأكلون الصمت في الليل الطويل.

كما شكّل كتاب (حركة الحداثة في الشعر العربي المعاصر) جمعاً أساسياً وذخيرة عامرة إلى الآن في مشهدية حركة الحداثة الشعرية العربية، وهو رسالة الدكتوراه لكمال خير بك التي حضّرها في السوربون بباريس وناقشها في جنيف بسويسرا، وكانت دراسة حول الإطار الاجتماعي الثقافي للاتجاهات والبنى الأدبية.. وقد رأى خير بك في جبران خليل جبران؛ أول ثوار الحداثة محرراً الكلمة العربية من هيمنة الموروث والسلفي حين أطلقها ورفاقه لتعايش الحياة المعاصرة، وهو ما وجده عند أمين نخلة، وسعيد عقل على مستوى القاموس، والموسيقا الشعرية.. أما نزار قباني؛ فوجده سباقاً إلى التجديد برشاقة الموسيقا، وبساطة اللغة الشعرية، وثراء صوره الجديدة والشفافة أي؛ اللغة الصاعدة، والحياتية اليومية النابعة من الواقع منزلاً اللغة عن عرشها إلى لغة الحديث اليومي والشارع والبيت.. والمبادرة الحاسمة في ثورة الحداثة كانت عند الثالوث العراقي (نازك الملائكة، وعبدالوهاب البياتي، والسياب)، ووضح ميله للسياب، ولكن التجديد الأكثر حضوراً وتماسكاً؛ كان على يد حركة (شعر) متمثلة بيوسف الخال وأدونيس وتنظيره لضرورة التخلي عن القصيدة التقليدية الوصفية ( بالقصيدة المشهد) ليحل مكانها قصيدة حداثية وهي( قصيدة الرؤيا)، وممن أثاروا زوبعة في صور التجديد؛ وصول محمد الماغوط إلى بيروت، ونشره قصائد نثرية مجردة من الإيقاع العروضي، فقد رأى أدونيس أن شكل القصيدة الحديثة، هو وحدتها العضوية؛ واقعيتها الفردية التي لايمكن تفكيكها يتوحد فيها الشكل والمضمون توحداً جوهرياً، وكذلك رأى في الغموض أهم سماتها.. لكن حركة (شعر) انهارت لاحقاً لأسباب عديدة بعد أن أنزلت الشعر عن صهوة القديم والموروث مهيئةً إياه لمراحل جديدة قادمة.

وكان من أجمل محطات الكتاب في القسم الثاني منه شهادات على صفحات المجلات والجرائد في الشاعر المجدد والمناضل كمال خير بك، وذلك بعد أن أردته يد الغدرفي عبثية اللحظات الباهظة و متعددة.. كانت الروايات حول فجيعة فقدانه مناضلاً وشاعراً وإنساناً وطنياً يعرف من أين يؤكل كتف عدوه، وتحت عنوان( الفارس القتيل يترجل) نشرالروائي الياس الديري في مجلة النهار العربي والدولي واصفاً إياه بالفرادة، حزينا باكياً على رحيله (مرَّ الرعاعُ، ورشقوا الجبين العالي، وهم لايدرون أي غاضب صرعوا).

ونشرت في السفير أيضاً خالدة سعيد (طاش السهمُ الأخير… انكسر القوس).. و(شعر يختزن الحياة والموت) في مقدمة لأعماله الشعرية الكاملة، ومحمد فرحات (موت النخبة)، وفي مجلة (فكر) نشر هاني بعل (لايغسل الشهداء)، وكتب الياس خوري في السفير أيضاً(عن شاعر يموت) والأشياء تتساقط بطيئة، غبار وأجساد وبقايا.. ويخلده أيضاً الكاتب خالد قطمة (النسر يموت واقفاً)، (كنا ثلاثة؛ جمعنا القدر على قضية، فؤاد الشمالي من كسروان، كمال خيربك من القرداحة، وأنا من حماه).. وتحت عنوان (الصورة) نشر له في مجلة النهار ذاتها الشاعر أدونيس، فكتب:

(إنها صورته تجلسُ معي الآن، عبثاً تسرج الشمس أحصنتها، الأهداب في الرمل والطرق هي الطرق، وما من ضوء يتلألأ، المكان إرث للريح، والزمن طقس جنائزي.).. وفي مقال متفرد رأى الناقد والقاص ناظم مهنا أن الشعر معرفياً عندكمال خير بك، هو (الفكر ل اتخوم له ولاحصون)، مستهجناً ومستغرباً تغييب هذه القامة الشعرية عن ذاكرة قراء الشعر العربي إلى هذا الحد حتى بات شبه منسي.. ليزين الكتاب بأحد أقسامه بقصائد منوعة من دواوين الشاعر الخمسة.. وسنختم بقصيدة تُعبّر عن وجع هذا الغريب المنفي، المطعون بنضاله، المغدور بعبثية زمانه، الحزين، الطامح، الثائر، المثخنة روحه بالجراح.. امتداد من خربشات (دفتر):

وطن ٌأنت، أم صدى أم سراب؟

لاتسلني، ففي السؤال الجواب

وطنٌ… من شواطئ الجرح تمتدّ

ويمتد في هواك العذابُ.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار