الآثار “كاملة”.. والحياة “ناقصة”!
زيد قطريب:
مات الشاعر علي الجندي “1928 – 2009” ولم تطبع آثاره الكاملة حتى الآن! كأن صاحب “الراية المنكّسة” فعلها في الشعر مثلما مارسها في الحياة عندما غادر دمشق للاستقرار في اللاذقية قائلاً إن ظلاً قد تراءى له فهرب. ورغم أن “أبا لهب” من مؤسسي اتحاد الكتاب العرب عام 1962، وهو من رواد التجديد في القصيدة العربية، إلا أن الباحث اليوم سيعاني الكثير حتى يحصل على كتبه المتناثرة!
الوقت يخزل الكتاب أحياناً، فيتركون أكواماً من المسودات لأبنائهم ويرحلون تاركين لهم فك الشيفرة الوراثية للكلمات. وفي حين تطبع الهيئات الثقافية الرسمية ما هبّ ودبّ من الكتب الهشّة بذريعة دعم الأدب، تبقى آثار الرواد بانتظار من يحنّ عليها حتى تخرج إلى النور بعد أن يرحلوا بزمن طويل. هكذا ما زالت كتب علي الجندي تنتظر لمّ الشمل في كتاب واحد، عسى تتحقق وعود وزير الثقافة حينها، لدى زيارته لأبي لهب قبيل رحيله بفترة قصيرة!
الأدباء مختلون عقلياً وغريبو الأطوار. فهم لا يشبهون المنهمكين بمعاملات حصر الإرث عندما يشعرون بدنوّ الأجل. ذلك التنسّك في الأدب جعلهم يمارسون الكتابة من أجل النجاة، وبالتالي كانت بقية الحسابات خارج دائرة اهتماماتهم. هكذا فعلها الشاعر أحمد خنسا عندما رحل هذا العام وخلفه كتاب وحيد بعنوان “كتاب المواجع” صدر عام 2015، وبقيت أدراجه مليئة بالقصائد!
مهمة طباعة الآثار الكاملة ليست مهمة سهلة على الشعراء، وقد احتاط بعضهم لهذا الأمر فشاؤوا أن يطبعوا كل عدة سنوات كتاباً يجمع الدواوين التي صدرت في تلك الفترة. قبل رحيل الشاعر فايز خضور بسنوات، أخبرني في لقاء صحفي أنه وصل إلى “تكاملية الخطاب الشعري” وأنه يعتقد بأن الدائرة الإبداعية قد اكتملت في تجربته، وبالتالي جمع آثاره الصادرة في الشعر والنثر، ضمن كتابين منقحين ومخرجين، ثم وضعها على قرص ليزري بناء على طلب وزارة الثقافة التي طبعتهما عام 2000، لكن فايز استمر بعدها بكتابة الشعر وأصدر أكثر من كتاب، فأعاد إصدار المجموعة الكاملة قبل رحيله بفترة بسيطة، لكنها بسبب خطأ تقني كانت مليئة بالأخطاء المطبعية، وتلك أشد الكبائر في الكتابة عند فايز!.
قصص الآثار الكاملة، تراجيديا طويلة بالنسبة للكاتب العربي الذي يعاني الفاقة وشظف العيش وعزوف دور النشر عن تبني طباعة الشعر لأنه لا يطعم خبزاً مقارنة بكتب الطبخ والتنجيم.
لاحقاً، كان عليّ أن أعاني الكثير في اقتفاء أثر القصائد التي كتبها أبي حسن قطريب منذ خمسينيات وستينيات القرن الماضي، لأن الظروف لم تكن تسمح له بالأرشفة، حتى الزوايا اللغوية التي كان يكتبها في الصحيفة، ضاعت هي الأخرى بسبب الانتقال للنشر الألكتروني وعدم القدرة على الاحتفاظ بذاكرة الصحيفة القديمة. ولولا مبادرة رئيس التحرير السابق عميد خولي إلى طباعة ثلاثة كتيبات صغيرة من تلك الزاوية في مطابع الجريدة، لكانت أصبحت أثراً بعد عين!
لولا دأب الكاتب يوسف عادلة، لما كحلنا عيوننا بديوان أخيه الشاعر الراحل توفيق عادلة “كِبْرُ الألم”، فالموت أنهى حلم الحياة الكاملة والآثار الكاملة معاً، لكن يوسف تعامل كقديس مع أمانة أخيه.
اليوم، أقول لأبنائي أن ينسفوا كل شيء بعد أن أرحل! ولا يكلفوا نفوسهم إلا وسعها. ما كتبناه منذ عام 2007 ضاع هو الآخر وها نحن الآن نجلس بلا ذاكرة، بدعوى مواكبة الحداثة، بينما الخراب يعصف بالثقافة من كل جانب.. سنطبع يوماً الآثار الكاملة، عندما نصبح أثراً بعد عين.. ربما!