أسماؤنا كيمياء ودلالات.. وظلال المعاني في عيوننا
جواد ديوب:
نبتدئ القولَ الفعلَ بـ”بسم الله الرحمن الرحيم” وربما لا يعرف الكثيرون أن سرّ القرآن الكريم، كما يقول الصوفيون، يكمن في الفاتحة، وجوهر الفاتحة في بسم الله، وجوهر الاسم في الباء، وجوهر الباء في النقطة، والنقطة هي الكون كله.
ولأن الأسماءَ دلالاتٌ وظلال معانٍ وإشاراتٌ ورؤيا فقد وسّعَ الله سبحانه مدى أسمائه، برأيي، لعلّنا إن ضعنا سنجد، في تأمّل أسمائه التسعة والتسعين واستحضارها واستبطانها في قلوبنا، سرّاً من أسرار خلْقِنا ووجودنا.
يقال: إن لكل إنسان من اسمه نصيب، أي إن هناك حبلاً سريّاً يصِلُ الاسمَ بصاحبه بذكرياته بطريقة كلامه وقول أفكاره، بمشاعره تجاه نفسه ومشاعرنا تجاهه، وقد لُقِّبَ الكثيرُ من شعراء العرب بألقاب منها الجميل ومنها الغريب، وصارت تلتصق بصاحبها فتغدو هي هو، وهو هي.
يروي أبو فرج الأصفهاني في “الأغاني” أن الشاعر (تأبطّ شراً) اسمُه الحقيقي ثابت بن جابر، ولكن لقبه “تأبّطَ شرّاً” التصق به ولزمه حتى بعد مماته لأن أمّه طلبت إليه أن يأتيها بهدية كما يفعل إخوتُه، فأتاها ذات يوم بجِرابٍ متأبطاً به، وألقاه بين يديها وفتحه، فخرجت منه أفاعٍ تسعى، فوثبت الأم وخرجت من البيت، فسألتها نساء الحي: بماذا أتاك ثابتٌ؟ فقالت: تأبطّ شرّاً…إنها أفاعٍ في جراب.
ولذلك حين التقى (تأبط شرّاً) برجل دميم ضئيل من بني ثقيف يقال له أبو وهب، سأله الأخيرُ: بما تغلِبُ أعداءَكَ؟ قال: باسمي، إنما أقولُه لهم فتنخلعُ قلوبُهم، فسأله الثقيفيّ: هل تبيعني اسمك؟ فأجابه بقصيدة قال فيها:
ألا هل أتى الحسناءَ أنّ حليلَها
تأبّطَ شراً واكتنيتُ أبا وَهَبِ
فهَبْهُ تسمّى اسمي وسمّاني اسمَه
فأين له صبري على معظم الخَطْبِ
وأين له بأسٌ كبأسي وثورتي
وأين له في كل فادحةٍ قلبي.
فيما بعض الشعوب، ومنها شعوب منطقتنا، لديها معتقدات بأن بعض الأسماء لا تناسب الطفل المولود لأن طاقة الاسم السلبية مدمّرة لجسد وروح أطفالهم وتسبب أمراضاً دائمة لهم، ما يجبر الأهل على تغييره كنوع من تحايل على القدر أو على الخط المرسوم لابنهم أو لابنتهم منذ كانوا روحاً معلقة على شجرة أرواح الخالق.
ومن المفهوم بالطبع إطلاق الأسماء على البشر لكن بعض الناس يطلقونها على الأحصنة العربية ذات الأنساب الأصيلة، بل حتى على القطط والكلاب في محاولة لأنسنتها وكأن تسميتها تجعلها تفهم مشاعرنا وأفكارنا، أو أن تنقل لنا أحاسيسها ألمها حزنها وفرحها، وربما لأنها كما يقول البوذيون كانت بشراً في دورة حياتها الماضية وتحولت إلى ما هي عليه من كائنات حية أخرى في هذه الدورة الجديدة من حياتها التي على شكل فيوضات تنبع من الفيض الأول أو الروح الأولى.
قلقُ التكرار!
في رواية “مائة عام من العزلة” للروائي غابرييل غارسيا ماركيز يروي لنا كيف أن الأم الكبيرة أورسولا في قرية (ماكوندو) كان لديها “قلقٌ من أن التكرار اللجوج للأسماء في تاريخ العائلة ينذر بما هو أسوأ من الفرح بولادتهم، فمن كانوا يُدعون ب(أوريليانو) منغلقين على أنفسهم، ثاقبو الفكر، ومن كانوا يُدعون خوسيه أركاديو كانوا نزقين جسورين، لكنهم موسومون بسمةٍ مأساوية.”
ولأن كل العالم في تلك القرية هو عالمٌ من دلالات خرافية، عالمٌ يتفلّت منهم كتسرّب الذاكرة، عالمٌ أصيبَ بداء الأرق العجيب الذي أنساهم معاني الأسماء والأشياء من حولهم، فقد بدؤوا يسجّلون بالحبر أسماءَ كل شيء ويلصقونه عليه: طاولة، كرسي، ساعة، بقرة، دجاجة، تيس…إلخ لكن مع احتمالات النسيان المتزايدة بازدياد الأرق وعدم النوم، أصبحوا يدوّنون بطاقاتٍ توضيحية يعلقونها حول أعناق الحيوانات لحفظ المشاعر والأفكار المتعلقة بهذا الشيء أو ذاك: “هذه بقرة، البقرة يجب حلبها كل صباح كي تعطي حليباً، و يجب غلي الحليب من أجل مزجه مع القهوة”.
بينما جعل الروائي أورهان باموق حتى الحيوانات والجمادات تنطق في روايته المذهلة “اسمي أحمر”، جعلها بحيلة روائية ساحرة تروي لنا الحياة من منظورها كما لو أنها تتألم وتحزن وتغضب وتصرخ، بل وتتحدث عنّا نحن البشر وعن شفقتها علينا أو كرهها لنا وبؤس حياتها معنا. إذ تشكلت كل مقاطع الرواية من عناوين على شكل: اسمي شكّورة، اسمي فراشة، اسمي قاتل، اسمي نقود، اسمي كلب، اسمي أحمر، …إلخ ، وصرنا أمام عوالم بقدر ما هي خرافية بقدر ما تجعلنا نعيد التفكير كما لو كنا نحن هي تلك الأشياء.
وأعتقد أن إطلاق الأسماء على الأشخاص كما نحسّها في عيونهم، في موسيقى أصواتهم، أو بحسب ما يتركه حضورهم علينا من هزّةٍ جميلة في المشاعر أو تخلخلٍ في كيمياء التواصل معهم منذ اللحظة الأولى، إنما نفعل ذلك كحيلة جميلة من إبداعات الإنسان في محاولةٍ لخلقِ نوعٍ من الألفة غير المعتادة مع الغرباء، وكسر جليد اللقاء الأول بنكتةٍ مفاجئةٍ، ليقول الإنسان للآخرين: لا يهمني من تكونون، لا تهمني أسماؤكم، ولا من أي بلد أنتم ولا من أي دين… أنا مهتم بكم كبشر مثلي، لكم عيونكم التي تبكي، وشفاهكم التي تضحك وقلوبكم التي تختزن آلامكم وأفراحكم، ولكم عقولكم التي تدرك أننا معاً مجرد قشة في مهب الزمن.