“الكوميديا السوداء” تنافس روَّادها الأوائل 

بارعة جمعة:

مجموعة أفراد يعيشون في قرية بسيطة لا تملك أدنى سبل الرفاهية سوى البساطة والأحلام البسيطة التي تتساوى مع إدراك أهالي هذه القرية، فهنا يتجادل الرجلان بصفة ساخرة ويعيبان بعضهما بعضا من أجل الفوز بحجة من دون أن يقصد إيذاء معنويات بعضهما بعضا، طريقة عرفت “بالكوميديا السوداء”، أفرزت أسلوباً جديداً للطرح ومعالجة القضايا قبل أن تكون مجرد رسم ابتسامة على وجوه المشاهدين.

فمن البوادر الإيجابية لصحوة الدراما السورية تضمنها أعمالا كوميدية برزت منذ نشأتها، حجزت لنفسها أمام جمهورها على الساحتين السورية والعربية موعداً معها، فاللجوء إلى معالجة قضايا المواطن اليومية بأسلوب ساخر يميل إلى الضحك والبكاء في وقتٍ واحد، يعدُّ الميزة الأساسية للكثير من الأعمال، لتبدو فيما بعد عنواناً لحقبة زمنية، حملت أحداثاً منوَّعة وتاريخاً حافلاً بالأعمال الدرامية.

وأمام هذا الكمِّ الهائل من القضايا التي تلازم الفرد في حياته، اتجه مؤلفو ومخرجو الدراما لمحاكاتها ضمن قوالب مضحكة، بتوجيه مفرداتٍ معيَّنةٍ تتناسب مع البيئة التي تخاطبها، أمام جمهورٍ عام متشوِّقٍ لمعرفة أسرار هذه القصص وخواتيمها غير المتوقعة في كثير من الأحيان.

كما برزت مهارة العاملين في مجال الكوميديا بمحاكاتهم قضايا عصريَّة بطرقٍ مختلفة، لتكون البيئة الريفية الحاضنة الأولى لهذا النوع في أعمال “ضيعة ضايعة” و”الخربة”، التي نقلت موروثاً شعبياً بنكهة اجتماعية خاطب مختلف الشرائح، فأصاب أهدافاً بالعمق، اعتمدتها قوَّة النص القائم على مهارة الكاتب المخضرم، فبات الجمهور أكثر تأثراً بقضايا حياته التي لازمته منذ سنوات، ومتلهفاً لرؤيتها بقوالب مضحكة تحكي آلاماً مشتركة.

فالمضحك المبكي هو الصفة البارزة لدى هذا النوع الدرامي، وإلا لن يكون للعمل أي معنى، والذي أثبتته تجارب عدة باءت بالفشل وحكمت على نفسها بالخروج من ذاكرة الجمهور، مسجلة وصمة عار في تاريخ الكوميديا المعاصرة.

فمع بدء الأزمة السورية تغيرت ملامح الكتابة الإبداعية للوحات، لتتناول الواقع المأزوم الذي فقد الكثير من نجوم الكوميديا ممن اختاروا العمل خارجه ضمن أعمال عربية، ما أوقع كتاب النصوص الكوميدية في مطب التكرار من دون الارتقاء لمحاكاة حقيقية بأسلوب مختلف، وبالرغم من ذلك لم يخل أيٍّ من المواسم الرمضانية من أعمال تُصنَّف بأنها كوميدية، ابتداءً بكوميديا “الموقف” وانتهاءً بكوميديا “الفارس”، والعشرات من الأعمال التي تضمنت مواقف مضحكة و حالات تفوَّقت على أعمال صُنِّفت بأنها كوميديا بحتة، لتحضر أمامنا نماذج معاصرة حجزت لنفسها مساحات واسعة من الحضور والمشاهدة بآنٍ معاً مثل: “ضبو الشناتي” الذي لامس وجدان المجتمع السوري بمرارة الواقع وسخرية الأقدار التي أوصلت الجميع إلى ما هم عليه، والذي أوضح قدرة العمل على التفريق بين السخرية والابتذال وبين الكوميديا القائمة بأشخاص بعينهم، باتوا رموزاً لها فيما بعد.

وأمام ما تعيشه هذه الحالة الدرامية، يبقى الهاجس الوحيد لصُنَّاعها يدور حول الخشية من وصولها إلى حالة الإفلاس أو العَطَب، لقيامها على جهود أشخاص محددين، تحضر بحضورهم وتغيب بغيابهم، وتحديداً في كاتب واحد ومخرج واحد، فإن غابا غابت الكوميديا، التي ما زالت تمثل الإنطلاقة الحية والأولى للدراما السورية.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار