أوروبا تدفع الثمن

ترجمة وتحرير: راشيل الذيب

في منتصف حزيران الماضي أعلنت شركة «غازبروم» الروسية تقييد تدفق الغاز الطبيعي عبر خط أنابيب «السيل الشمالي/نورد ستريم » إلى ألمانيا بنسبة 40٪ عن المستويات المخطط لها مسبقاً، وذلك بسبب التأخر في إعادة المعدات التي تصلحها شركة «سيمنز» الكندية اللازمة لصيانة هذا الخط ، وتعزو كندا أسباب التأخر بشكل مباشر إلى القيود المفروضة على «غازبروم» كجزء من العقوبات المفروضة على روسيا والشركات الروسية في أعقاب العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا، فتسببت أولى تداعيات هذا الإعلان بارتفاع أسعار الغاز في أوروبا بأرقام مضاعفة.

إن تقييد موارد الطاقة الروسية يعني أن تصبح أوروبا، في المدى الطويل، المنطقةَ ذات التكلفة الأعلى لموارد الطاقة في العالم كما جاء على لسان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

يمكن القول إن أوروبا بدأت تدفع ثمن فرضها قيوداً على روسيا، عبر تجاهلها أبسط قواعد علم الاقتصاد التي تقول إن نقص عرض سلعة أساسية يؤدي حتماً إلى زيادة تكلفة تلك السلعة، ليدفع المواطنون الأوروبيون لقاء غباء القيادة الأوروبية التي، وليس للمرة الأولى، وضعت الرضوخ للأمريكيين فوق حقوق واحتياجات مواطنيها. وبدلاً من بلوغ مراميها في دفع الاقتصاد الروسي إلى دوامة الانحدار حدث العكس تماماً: عاد الروبل الروسي- الذي انخفض إلى أكثر من 100 مقابل الدولار الأمريكي قبل أشهر- مرة أخرى لتعزيز مواقعه أمام العملتين الأمريكية والأوروبية، كما حققت صادرات موسكو الرئيسية مستويات قياسية من الأرباح في الأسواق الخارجية، بينما بدأت الاقتصادات الأوروبية تواجه عواقب أفعالها، وهذا يشمل الأسعار القياسية المطلوبة للأغذية، ومواجهة خطر المجاعة الذي سيؤثر على أجزاء كبيرة من العالم، بما فيها أوروبا.

ومن النتائج الأخرى لالتزام ألمانيا الصاغر بالرغبات الأمريكية، إلغاء مشروع «نورد ستريم 2» بعد إنفاقها نحو 10 مليارات دولار، والطامة الكبرى أن أيا من هذا لم يكن ضرورياً! والروس الآن يجبرون الألمان على دفع الثمن: سيكون للارتفاع السريع في تكاليف الطاقة الألمانية تبعات من حيث القدرة التنافسية للصادرات. كثيراً ما كانت المنتجات الأوروبية قادرة على التنافس الدولي رغم ثمنها الباهظ، لكن الأمر اختلف الآن في ظل التكلفة الهائلة لإمدادات الطاقة، ووفقاً لصحيفة «وول ستريت جورنال» فإن بعض المنتجين أُجبروا على الإغلاق في مواجهة تنافسية الأسعار في أماكن أخرى من العالم، بعد أن أصبحت أسعار الغاز الطبيعي الأوروبية أعلى بثلاث مرات في أوروبا منها في الولايات المتحدة، والذي كان نتيجة مباشرة للعقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة وأوروبا على روسيا.

في حين بدأ الروس بالفعل في إعادة توجيه طاقتهم شرقاً، إلى الهند والصين من بين أماكن أخرى، وهذا يعكس اعترافاً من الجانب الروسي بأن مركز الثقل العالمي قد ابتعد بشكل مطرد عن الولايات المتحدة وبريطانيا وأوروبا.

**** روسيا القوية إذلال للغرب

عندما تم استبعاد روسيا بشكل تعسفي من “مجموعة الثماني (G8) في عام 2014، رأى الكثير في الغرب في ذلك خطوة نحو كتلة غربية أكثر تماسكاً (أي مجموعة السبع التي يمكنها بشكل جماعي مواجهة روسيا من خلال استجابة متجانسة تجمع بين الوسائل الاقتصادية والعسكرية) وعلى المنوال ذاته لم يكن الرد الذي قدمه الغرب للعملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا غير متوقع، لكنه عكس انهزاماً داخلياً وسط تعرض للكثير من الضغوط الاقتصادية، وتجلى ذلك بوضوح من خلال قمة مجموعة السبع الأخيرة التي عقدت في ألمانيا، حيث عقد زعماء غربيون لقاءاتهم على خلفية الفشل الصارخ لسياستهم المناهضة لروسيا وتوريد الأسلحة إلى أوكرانيا، حيث يواصل الجيش الروسي تعزيز مكاسبه من جهة، ويعزز الروبل قيمته مقابل الدولار الأمريكي من جهة ثانية، الأمر الذي يقوض الخطة الغربية في تدمير الاقتصاد الروسي من خلال العقوبات المالية.

بعبارة أخرى: إن مصدر المشاكل العديدة التي يواجهها الغرب هو قدرة روسيا على مواصلة بيع النفط والغاز حول العالم بسعر أعلى بكثير من العام الماضي، ووفقاً للبيانات التي قدمها البنك المركزي الروسي، كان الفائض الروسي في الفترة من كانون الثاني إلى أيار 2022 يزيد قليلاً على 110 مليارات دولار أمريكي، في زيادة تتجاوز 3.5% مقارنة بالعام الماضي. وسمح هذا التقدم لروسيا بمقاومة العقوبات الغربية، فضلاً عن المساهمة بشكل مباشر في تقويض قدرة الغرب على رسم رد جديد متماسك داخلياً.

ولعل التضخم المرتفع وتباطؤ النمو وشبح نقص الطاقة في أوروبا يقوض شهية الغرب لفرض عقوبات أكثر صرامة على موسكو، بعد أن منعت الخلافات بين قادة الولايات المتحدة وكندا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا واليابان من الاتفاق على عقوبات جديدة ملموسة.

تتضح مشاكل الغرب المتزايدة من حقيقة أن وجود دول غير أعضاء لم يدعم جهود الكتلة لتشكيل تحالف عالمي ضد روسيا. الهند مثال مثير للاهتمام. عندما بدأت العملية الروسية في أوكرانيا وقررت نيودلهي شراء النفط الروسي، حذرت الولايات المتحدة الأخيرة من مغبة محاولات الالتفاف على العقوبات على روسيا. والآن، بعد أن دُعيت الهند إلى قمة السبع، فهذا يعني أن الغرب فشل في هزيمة روسيا بمفرده وأنه يتطلع بشدة إلى دول أخرى، لكن هل نجحت هذه الاستراتيجية؟ في الواقع تشير التقارير إلى أن الهند لن تصبح جزءاً من أي تشكيل مناهض لروسيا.

لا عجب أن الرئيس الأمريكي جو بايدن ظل متحفظاً خلال قمة السبع، وفي ختامها خرج على عجل من دون إلقاء أي خطاب. إنه بمنزلة تذكير محبط للكتلة بأنه في عالم يتسم بتعدد الأقطاب، لا يمكن لـ”الديمقراطيات الحرة” تكليف أنفسها بمهمة توجيه العالم.

عن «نيو ايسترن آوت لوك»

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار