اكتظّت القاعة بالروّاد الذين التزموا مقاعدهم وعيونهم تتنقّل تلقائيّاً بين المنبر والباب الذي يُفترض أن تصمتَ مفصّلاته حين يُشغَل المنبر بأصحاب الأمسية الثقافية التي لا بدَّ أن تتأخّر لسبب ما، كأنه تقليدٌ دائم لأمسياتنا يدور لدقائق قبل أن تقلع الاحتفالية ويتحول الجمهور إلى مستمعٍ نموذجي (ألم يأتِ بطيب خاطر ومحضِ إرادة كي يستمع؟) بينما يبدأ أصحاب المنبر بإلقاء ما أعدّوه من محاضراتٍ أو قصصٍ أو قصائد، وهي تطوف على السّمع بأفكارٍ شتى، منثورة أو منظومة، لكنها تتقاطع مهما تنوعت واختلفت، في أخطاء لغوية تختلُّ فيها المثنّيات والجموع، ويضطرب المعدود ويتحطم الممنوع من الصّرف، وتغرق حروف الجر كالأسماك الصغيرة في وعاء ضئيل يخرج منها زلِقاً، وقت الاستخدام، ما تطاله اليد دون تمييز بين باءٍ وفاءٍ وياء! وما إن تمضي الساعة والساعتان حتى يكون الجو قد احتشى بأخطاء لا تُحصى من دون أن يجرؤ أحدٌ على التصويب، فهنا ليست قاعةَ امتحان لغة بل أساتذة تجاوزوا الامتحانات الفصلية والمقررات الدراسية وصارت اللغة السليمة تحصيلَ حاصل وتفصيلاً لا يحتاج إلى صقل لأن الصقل يتوجه إلى الفكرة وطريقة صياغتها وعرضِها!
ذات يومٍ ضاقت القاعة بأخطاء “شاعرة” فوجدتُ من حقي أن أسألها حين أُتيح لنا الحوار، وهو تقليدٌ جميل في الملتقَيات، كيف لها أن تعبث كلّ هذا العبث بقواعد النحو والصرف وما هو دافعها لتخطي عتبة الشعر وهي لم تمتلك بعد ناصية أبسط شروطه؟ فكانت بعد ذلك حربٌ شعواء اشترك فيها أصدقاء ومعارف “الشاعرة” كلٌّ بطريقته، بين مترقّقٍ ومجاملٍ كي لا يخسر أحديْنا وبين وقّادٍ خفيّ يلقي بضغثٍ على إبّالة، وفي حين تبدّدت الإجابة على السؤال الأساسيّ بقي النقْعُ مستديماً ورائي، ربما حتى هذه الساعة! لكن الأفظع أن هذه الظاهرة لا تقتصر على المتطفلين على الأدب بل على أهله الراسخين في مشهد الكتابة والتأليف والنشر والاحتفاليات، خاصة حين القراءة الجهورية التي لا تتعلق بالارتجال بل بنصوصهم المكتوبة ذاتِها، بحيث كلما كان المرء بين الجمهور المستمع شعر أنه ضلَّ الطريق إلى حفل تأبين لا حفلَ تكريم، ومهما كانت ملابس المؤبّنين فاخرة والفرقة الموسيقية بارعة في العزف، فإن فجيعة الموت تبقى حاضرة، فما نفعُ النصوص إذا تهالكت اللغة؟ وما نفعُ العقد إذا كانت حبّاته من لؤلؤ أو عقيق أو مرجان غير مصقولة على أصول نحت وتشذيب الصائغ؟
مازحةً، قلت لصديقي الشاعر: بعد كل أمسية أدبية يجب إجراء جلسة تقييم شاملة لمستوى الأمسية، وعنيتُ، فيما عنيت، الانتباه الشديد لكيفية استخدام اللغة لتبقى مكرّمة وهي حية، لا تُستباح كل يوم على مذبحٍ وتفتقر حتى إلى تأبين!