غسان هندي يُبحرُ بنصوصٍ بأشرعةٍ من ضوء
راوية زاهر
غسان هندي؛ هو من الكتّاب القلة الذين أخلصوا لفن (القصة القصيرة جداً)، فلم يكتب غيرها، وكانت له مشاركاته العديدة في مختلف الفعاليات التي أقيمت لها، ومنها مشاركته في الكتابين (أشرعة من ضوء) الأول والثاني الصادرين عن دار بعل بدمشق .. ومن اشتغاله في هذا الفن سنختار قصة (تناسب) للقراءة عسى أن يُعطي الجزء ملامح الكل في نتاج هذا الكاتب:
“تناسب
أبغضتهُ وأبغضني، إذا افترقنا تحت سقف الوطن، فدمرناه وأحرقناه.. لم يبق لنا مانختلف عليه، فأحببته وأحبني إذا التقينا في عراء المخيم.”
نصٌّ واقعيٌّ؛ رسم الكاتب خيوطَه بإتقان، وتشابكت بحرفية لتصنع لوحة حكائية موجعة حد النزف.. وأمام أي نص؛ نقفُ كالعادة أمام فاتحته، وهي العنوان.. العتبة النصية الأولى التي يجب على القارئ والناقد تخطيها، والعنوان هنا (تناسب) بداية ترسم خطى النص وتنبئونا بنهاية لارابح فيها يتساوى فيها طرفا المعادلة سواء برضاهما أم بعدمه.. (أبغضته وأبغضني) بداية تشي بحدث ٍدراميّ لا تحمد عقباه.. حالة تصف بدائية الحدث الموجع، وزمانهُ واضحٌ.. بداية أزمة وطنية دارت رحى حربها فطحنت كل ماصادفت في طريقها.. إذاً؛ بدا النص حكاية بزمان ومكان واضحين.. شخصياته اختصرها الكاتب بشخصيتن مثلتا قطبي وطن بأكمله على اتساع رقعته لا مكان لشخصيات أخرى.
في لحظاتٍ معينة يدور حدثٌ يُغيرُ خارطة الكون، ويرمي بشخصياته خارج الزمان والمكان ليصير هو ذاته مقذوفاً من داخل المكان إلى خارجه.. وقد حجز النص هنا لنفسه بحكائيته الواضحة، بتكثيفه، وقصر حجمه مكاناً في النص الوجيزي متمثلاً بالقصة القصيرة جداً، فخيوطها واضحة الهوية وعميقة ودقيقة.. وأمام نص ال (ق ق ج)؛ لابدّ من الوقوف دائماً على ثلاث خصائص مهمة وهي: المفارقة، الحالة، والخاتمة لتكتمل قراءة نص حمل بين دفتي سطوره الإيجاز والبلاغة والتشويق.. والمفارقة هنا؛ هي جريانٌ للأحداث بشكلٍ عفوي، تراتبي على حساب أحداث أخرى أراد الكاتب أن يحملّها لنصه، وهي ثنائية درامي خاصة بالمبدع يلجأ إليها لإظهار عكس مايعنيه.. فقد سارَ الحدث في النص في إيقاع سريع لذلك ننتظر أن يستند إلى نهاية مفاجئة ومباغتة.. طرفان متباغضان، مكانٌ واحد مُدمر، محروق، مسلوب الهوية.. لم يبق فيه شيء حتى يتنازع عليه الطرفان، هو أشرطة من ضبابٍ وبقايا سحاب متفحم، وشبه مكان كأرضٍ يباب.. وفي عشوائية الضباب الكثيف؛ كلا الطرفين تسلل في عتمة الصفقة ورحل بعيداً..
أما الحالة؛ فتكمن في حالة الوعي في ذات المبدع لما يمتلكه في قرارة نفسه من قوة الرؤية ورهافة الحس ودقة الملاحظة وبراعة في تصوير ما آلت إليه مشهدية الحدث، وقد ابتعد الكاتب عن السرد والشرح، واختصر الحكاية بمكانٍ محروق مدمر مُحاولاً إخماد الاحتمالات السائدة في بنية النص، وأطفأ كلَّ حالة الجدل التي أوصلت الحال لما هو عليه، تاركاً البابَ موارباً أمام الخواتيم فقط.. فلاجدوى من أي تفاصيل أخرى.. فالاحتمالات مُخمدة من أجل التمهيد للخاتمة عبر تقاطع مخزون الذاكرة عند المتلقي مع ما يُمهد له الكاتب.. والخاتمة هي حالة الإدهاش التي ترتكز عليها القصة، وهي الغاية والهدف، وأهم عناصر القصة القصيرة جداً.. وقد أبدع الكاتب بتكثيفه لها، وجعلها متوهجة ومن خارج السرد وكأنها غير معنية بالمضمون.. فكانت قفزة من داخل النص إلى خارجه الإدهاشي، لنقف أمام واقعٍ مثير لكل مشاعر الأسى.. فطرفا البلاد ضاقت بهما جغرافيا وطن، تبادلا أطراف الكره في جنة نعيمه لتتسع قلوبهما في مخيم عارٍ إلا من وجعهما لا يملكان فيه غير وجع الندم، وندوب حريقٍ أشعلاه معاً، واحترقا به معاً، وهاهما يلملمان شتاتهما على أرصفة منفى، يتبادلان الشفقة وأنين الشقاء ببرده وحره وذله.. كلُّ ذلك قدمه الكاتب بلغة باذخة، بعيدة عن الحشو والاستطراد، معبرة.. وقد خرجت من حقلها المعجمي إلى حقلٍ من الشعور والدلالة، فاستطاعت كل لفظة أن تنقل لنا الشعور بدقة لامتناهية.. وكانت تعبيراً واضحاً عن التكثيف، ذهب الكاتبُ من خلالها إلى اكتشاف طاقة المفردة، وبحر دلالتها بجوهرها لا بظاهرها، والربط بين الثابت والمتغير في براعة الترتيب في التركيب، بصرفه وحدسيته وحتى مشهديته الدرامية والحكائية.. فقد اعتمدَ النص على الإخبار، والإضمار، والحذف والإخفاء.. ليضعنا وجهاً لوجه أمام تقنية ال( ق ق ج).. وقد يحمل النص تناصاً مخفياً، أفاد الاختزال والتكثيف بإحالتنا إلى (روما المحروقة).. وليتركنا الكاتب نملأ بإرادتنا فراغات لوجع قد طال البشر والحجر، الطير والشجر في بلدٍ تحولت الحياة فيه في لحظة جنون إلى محرقة ومنفى.. النص – كما ذكرنا- واقعي، ويغور بأصابعه في عمق جرح المتلقي، وهنا يكمن الإبداع لنص وقف بحرفية على وجعٍ معاش.. نصٌّ قصيرٌ بحجمه، عميق برؤاه، تعانقت أفكاره وألفاظه وانصهرتا معاً في بوتقةٍ أدبية واحدة، وفي محاولةٍ واضحة لإيصال رسالةٍ ما..